المؤرخ والباحث الذي يبني مُدنا من قلب التاريخ.

أعرف محمد السيف كاتبا وصحفيا بارعا، من أبرز المثقفين في المملكة العربية السعودية. المجلة العربية التي يرأس تحريرها الآن، كانت ولا زالت من أجمل الأماكن التي نشرت بها مقالات رغم قلة نشري، وتظل من أجمل المجلات الثقافية العربية عابرة الحدود والزمن. محمد السيف أو محمد بن عبد الله السيف كاتب ومثقف رائع، له دوره العظيم في الثقافة السعودية والعربية، فإلى جوار منصبه كرئيس تحرير المجلة العربية ذات الصيت الكبير، عضو مجلس إدارة هيئة الأدب والنشر والترجمة بالمملكة العربية السعودية. هو باحث حقا، لكنه مؤرخ استثنائي يبحث موضوعاته من كل جانب، شخصي أو تاريخي أو اجتماعي وفلسفي. له كتب هامة في السيرة والتاريخ معها وحولها مثل “ عبد الله الطريقي.. صخور النفط ورمال السياسة” و” ناصر المنقور.. أشواك السياسة وغُربة السفارة” و” أحمد الشيباني أو ذيبان الشمري- سيرته.. فلسفته.. معاركه” و” نجيب المانع.. حياته وآثاره” وغيرها. فضلا عن كتب حررها وأعدها وقدم لها مثل” غازي القصيبي.. في عين العاصفة” و”مختارات من مجلة قريش” وغيرها. منذ عام تقريبا كان أجمل ما حدث في حياتي لقائي به في القاهرة مع العزيز الصحفي والكاتب النبيل علي مكي، الذي لا تنقطع لقاءاتنا كلما جاء إلى القاهرة، ومعه أقابل أجمل الأحباء من المملكة العربية السعودية. كان طلب محد السيف مني أن ينشر لي رواية جديدة في دار جداول اللبنانية السعودية، سببا في تذكر ما يفوتني بحكم العمر والصحة. لم يحدثني عن نفسه ولا كتبه فأنا أعرف وإن فاتني بعضها. جعلني ذلك أذهب إلى دار جداول في معرض القاهرة الماضي للكتاب، لأجد كنزا من الكتب التي كتبها محمد السيف. في الأشهر الماضية قرأت كتابين منها وكتبت عنهما. الأول “حمزة عوف سياسي دولتين وإمارة” والثاني هو” عبد الله الطريقي. صخور النفط ورمال السياسة”. السؤال الذي قفز الي روحي وأنا اقرأ ولا يزال، كيف يوجد لدينا مفكر ومؤرخ مثل محمد السيف، وتفوتني قراءة بعض كتبه العظيمة. هذا سؤال أحاول الإجابة عليه بالقراءة. السؤال الثاني أرجئه إلى آخر هذه الشهادة مني. في الكتاب الأول الذي شرفت بالكتابة عنه مقالا كبيرا عن حمزة عوف المستشار السياسي للمملكة وقيام المملكة العربية واستقرارها، كنت أقرأ وأري. فلغة محمد السيف العلمية في البحث محملة برائحة المكان والزمان وأحلام البشر. وبعيدا عن تفاصيل الكتاب أو كل ما كتبته كعرض له وهو موجود على الإنترنت لمن يشأ، هالتني هذه المعرفة العظمي للتاريخ وكل تفاصيله. كتاب يزيد عن سبعمائة صفحة من القطع الكبير لم أتركه من يدي. أعاد لي تاريخ صعود المملكة العربية السعودية منذ القرن التاسع عشر، وما جرى بعد انهيار الدولة العثمانية وأثر ذلك على قيام المملكة. لقد قرأت كثيرا فيما جرى منذ القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين عن هذه الأحداث. كان من أبرز ما قرأته مذكرات لورانس العرب، أو توماس إدوارد لورانس الضابط البريطاني الذي لقب بذلك، لكن كتاب محمد السيف أبهرني بمساحته الأوسع في الحديث بالتوثيق أو بالأحداث. وجدت نفسي بين سيرة لشخصية سياسية وبين سيرة الأرض والمدن والأدب والأدباء والصحافة والصحف وكل شيء يخطر في بالك يتحرك أمامك، فبدا لي أن محمد السيف لا يؤرخ فقط لمراحل تاريخية، لكن يبني عمارة من أدوات من المعرفة. صرت اندهش كيف استطاع الحصول عليها، رغم أنه بأمانة الباحث المحترم لا ينسى مصادره في الحديث عن الكتاب، ولا شكر من أتاح له الاطلاع عليها. الكتاب بإيجاز سيرة لشخصية هامة حقا في تاريخ المملكة، لكنه أيضا رحلة مع تاريخ المملكة عبر قرنين من الزمان، اعتمد فيها الكاتب على وثائق وخطابات شغلت مائة صفحة من الكتاب، وحافل بالصور للأماكن وكل من جاء ذكرهم في الكتاب، يعكس جهدا علميا جبارا في البحث يستحق عليه الكاتب محمد بن عبد الله السيف كل تقدير، فلقد قام بما يمكن أن يقوم به فريق كامل من الباحثين. كان الكتاب الثاني هو “ عبد الله الطريقي.. صخور النفط ورمال السياسة” منشور في دار جداول أيضا، في طبعته السابعة مما يعني رواج كتب محمد السيف رواجا عظيما. طبعة سابعة لكتاب تاريخي وفكري في هذه السنوات القصيرة منذ نشر الكتاب أول مرة، شهادة رائعة قل نظيرها من القراء في عالمنا العربي على كتب فكرية وتاريخية. تؤكد بعيدا عن أي مناصب يتولاها محمد السيف، الأثر الثقافي العظيم لكتاباته. الكتاب عن أحد أعلام المملكة أيضا ومؤثريها الكبار في عالم النفط، منذ نشأة المملكة في القرن العشرين علي يد عبد العزيز آل سعود. ومع سيرته أحوال المملكة والعالم العربي. صخور النفط هي المصاعب التي حاول الطريقي القضاء عليها، ورمال السياسة هي ما غرقت قدماه فيها. وبإيجاز فالكتاب متاح، نرى في سيرة الطريقي كيف كان حاسما في أرائه ودفع الثمن لذلك، حتى أنه بعد أن غادر المملكة بلا رجعة، تم منع أي كتابة عنه، وهذا الكتاب نفسه بعد نشره في بيروت في أول طبعة، تم منعه في المملكة لثلاث سنوات، حتى تغيرت الأحوال في المملكة وسمح بدخول الكتاب، ومن ثم يظل للمؤلف محمد السيف الفضل الكبير في فتح صفحات، كان يمكن أن تظل غائبة عن صاحب السيرة. ويأخذني هذا الي الحديث عن نفسي وتجربتي في نشر روايتي بتشجيع من محمد السيف. رواية “ سامح الفؤاد” التي نشرت منذ حوالي شهرين ولم أجد منه ولا من الدار غير كل ترحاب حقا وحسن معاملة، لكن قفز السؤال كيف صرت أنشر في الخارج أكثر من مصر؟ والإجابة لأن مساحة الحرية المتاحة في الكتابة قبولها أكثر في الخارج، ففي مصر الآن يخشى كثير من الناشرين شيئا قد يشي برأي في السياسة أو الجنس أو الدين. لا ألوم الناشرين في مصر فأنا اعرف ما حولي، لكن سعادتي كبيرة أن صارت السعودية تفتح باب الحرية كاملا للفكر والإبداع. أعود إلي محمد السيف وإلى السؤال الثاني الذي ارجأته إلى آخر هذه الشهادة، وهو كيف يوجد لدينا مفكر ومؤرخ عظيم مثل محمد السيف الذي أراه، ويراه كل من يقرأ له، مدينة كاملة من العمران، ولا نقرأ أنه حاز أعظم الجوائز العربية. أعرف أنه نبيل الروح إلى أقصى مدى، ولا يسعى إلى ذلك، لكن أتمنى أن تفعل ذلك المؤسسات الثقافية في عالمنا العربي، فهو إضافة لكل جائزة. كم أنه إضافة عظيمة إلى أهم المؤرخين والباحثين العرب في كل العصور.