
ليست الإصدارات السيرية لمحمد السيف مجرد حكايات فردية، بل مشروع متماسك ينظر إلى السيرة كخرائط مصغّرة للعقل السياسي والاداري، وعدسة لفهم تحولات مجتمعاتنا وأطوار حياتنا العامة. لم يكن محمد السيف أول من كتب السير الغيرية في بلادنا؛ فقد سبقه جيل الرواد الذين اعتمدوا أسلوب التراجم التقليدية أو الرواية الشفهية، وربما سبقه الى الفن من جيله عدة مؤلفون، لكن أغلبهم وقف على طريقة اعداد الذكريات الخام او ثيمة “فلان يتذكر..”. غير ان السيف تفرّد عنهم، إضافة الى حجم النتاج والمحصلة، في اقتباسه لمدرسة السيّر التي تتجاوز الحكاية الفردية إلى تشريح البنية العامة للمجالات التي مثّلها أصحابها. ومنذ اصداره التدشيني عن معالي الشيخ عبدالله الطريقي، خبير الزيت ووزير النفط، الذي صدر أقرب إلى سيرة-تحليلية تعيد تركيب مشهد سياسي–اقتصادي معقّد، وليست مجرد “حياة رجل” او بطولة لأيقونة اجتماعية.. تجاوز السيف في عيون السير، التي وضعها، الأفراد، ليكشف عن ملامح مراحل كاملة. فالموضوع يتجاوز الفرد ليصبح عن كيف تعمل آليات السلطة وكيف يتشكل القرار الوطني، وكيف تتبلور أولويات الدولة وتوازناتها. هكذا تكون سيرة الطريقي، في جوهرها، عن تواريخ كفاح تشكّل الوعي النفطي الوطني، وعن تبلور السيادة الاقتصادية في مواجهة الاحتكارات العالمية. وسيرة ناصر المنقور في رئاسة جامعة الرياض في بواكيرها، عن كفاح الدولة لتأسيس نخبة وطنية وقاعدة معرفية حديثة. وسيرة حمزة غوث، عن صعود فكرة الدولة السعودية وانتصار سرديتها على الامارات والمشيخات المنافسة قاصرة النظر. وسيرة محمد الطويل، عن صعود جذوة الإدارة الحديثة، وعن صراع الصحوة، وكفاح المجتمع والدولة ضدا على مصادرة المجال العام. إعادة الاعتبار وترتيب الذاكرة السيرة الفردية تتحول عند السيف إلى أداة لبناء ذاكرة جماعية، وتأصيل تاريخ مواز من الضروري أن يبقى بارزاً. نرى ذلك بشكل أوضح في سير الأسماء التي لا تحظى بتفاعل كاف في السرديات المعاصرة، مثل نجيب المانع، الأديب والمترجم الذي تعرضت سيرته للتشويه؛ أو أحمد الشيباني، صحافي السجالات الفكرية في زمن الحرب الباردة؛ أو جميل البارودي، مندوب السعودية في الأمم المتحدة الذي كشفت تجربته تناقضات الخطاب الدبلوماسي الأممي.. كلها أعيد الاعتبار لتجاربها بعد ان كادت أن تُمحى من وعينا المعاصر. فهو كمن يلتقط الشوارد ويعيد حقنها من جديد في التيار العام، مانحًا الذاكرة الجماعية توازنًا وعدلًا في التوزيع. وهو اذ يردم الهوة بين التاريخ الرسمي والذاكرة الجمعية، ترقى اصداراته كنصوص مرجعية لدارسي التاريخ والسياسة السعودية. فسيرة الطريقي مرجع لدارسي تاريخ النفط والطاقة، والاقتصاد السياسي، وتكلفة صنع القرار في الدبلوماسية الدولية. وسيرة المنقور مرجع لدارسي السياسة والعلاقات الدولية، وتاريخ التنمية وبناء مؤسسات الدولة الحديثة. وسيرة الطويل المقتضبة، مرجع لدارسي تكلفة مجابهة الممانعين، ولتاريخ الإدارة العامة والتعليم. الدقة لا التبجيل لا يكتب السيف بلغة التبجيل المطلق، بل يمنح الشخصيات صوتها وتعليقها دون اتخاذ مواقف قطعية. يظهر التحديات والتناقضات، بين المبادئ والإكراهات الواقعية، فيكشف العمق الإنساني والسياسي للشخصيات. ولا يحجب الأوهام والعثرات - من ذلك تأكيده على الأوهام الناصرية للطريقي، او الهفوات المهنية للبارودي، وبقية كبوات الشخصيات. هذه المقاربة تمنح السرد قوته ومصداقيته. الوثائقية والانغماس في الأرشيف يبني السيف أعماله على أرشيف متين: وثائق رسمية، شهادات، مقالات قديمة نادرة، ونصوص من أصحاب السير أو مجايليهم. هو يقضي سنوات طويلة ومضنية في الأرشيف، ويجري مئات المقابلات، وينبش في ألبومات عائلات الشخصيات وعائلات أقرانهم، ويطارد خلف قصاصة لحوار صحافي قديم وغير متداول ولو في صحف أجنبية - كل ذلك ليتأكد من أن ما يقدمه ليس مجرد رواية تقريرية او مستهلكة أو أحادية، بل شهادة دقيقة على حقبة، تقربنا من فهم تفسير الأحداث. كأنه يصرّ على أن الكتابة عن الذاكرة العامة ليست ترفًا ثقافيا، بل مسؤولية أخلاقية ومعرفية. مشروع وطني أصيل إصدارات محمد السيف اليوم ليست مجرد كتب، بل بنية تحتية لذاكرة وطنية، وسجّلات تاريخية ذاخرة بالعبر والدروس. إنها تمنح للتجربة السعودية العامة عمقها التاريخي وتراكمها الحضاري، وتضفي على المسار الوطني بعدًا من الوعي يمد التجربة من داخلها بالثقة وشروط التجدد، ويقلّص الفوارق بين الأجيال، ويوفر الهامش الضروري للنقد والمراجعة. اصداراته تتجاوز حدود الأفراد لتصبح أدوات لبناء ذاكرة جماعية راسخة، تردم الفجوات، وتثري الحاضر، وتضيء المستقبل.