مواسم العودة إلى الوطن في الرواية العربية المهاجرة.

ترافقت الهجرة خارج الوطن العربي مع تنامي الحركة الأدبية العربية في مطلع القرن الماضي. رحل الكتّاب من مناطق عربية مختلفة لكن من منطقة الشام بصفة خاصة مع من رحل من الهاربين من الفقر أو الاضطهاد السياسي ليستقروا خارج أوطانهم ولتبدأ بعد ذلك ملاحم الحنين إلى الوطن المتروك. ظاهرة عرفتها معظم آداب العالم بل وتشابهت في كثير من الأحيان أسباب الرحيل لتتضح بعد ذلك أشكال الحنين. الشعراء العرب الذين شكلوا ظاهرة أدب المهجر كان معهم من كتب الحكايات أيضاً، ومن أولئك أمين الريحاني الذي نسج ما يبدو أنها أول رواية عربية مهاجرة كتبت بلغة غير عربية، ومع أن سؤال العروبة ملح في حالة تلك الرواية التي حملت عنوان “كتاب خالد” (1911)، نتيجة لاختلاف اللغة، فإن كل ما في العمل السردي، باستثناء اللغة، يقول إنه عربي. ويصدق ذلك على أعمال روائية كثيرة أخرى أنتجها مهاجرون آخرون في مراحل تالية سواء كانوا في أوروبا أو أمريكا الشمالية أو غير ذلك من مواطن الهجرة. يصدق على روايات وصفت بالفرانكوفونية وأخرى بالأنغلوفونية. يصدق لا من حيث اللغة التي كتبت بها تلك الروايات وإنما من حيث الحكايات والهموم والتوجهات. كل ما في الروايات عربي، كلها تنطق باللسان العربي متحدية عجمة اللسان. غير أن من الروايات المهاجرة ما احتفظ بعروبته اللغوية أيضاً مستبقياً من الهجرة غربتها وهمومها فاشترك مع الروايات الأخرى في قاسم كبير هو الوطن الذي عادت إليه الروايات سواء بلغتها أو بحكاياتها وإشكالياتها وأحلامها ليتأكد بذلك أن العودة إلى الأوطان ليست من شأن الأجساد وحدها وإنما هي شأن المخيلة أيضاً. تهاجر الأجساد وتعود الحكايات في رحلات متخيلة تارة وسيلتها الحكاية واللغة وأخرى وسيلتها الحكاية والهموم. نحن إذاً أمام لونين من الروايات المهاجرة: بعضها كتب بالعربية وبعضها الآخر بلغة البلاد التي هاجر إليها الكتاب، وفي الملاحظات التالية وقفة عند بعض تلك الروايات التي أستعير لتناولها عنوان رواية يمكن اعتبارها النموذج الأكثر شهرة وتأثيراً: “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح. ما تخرج عنه الروايات موضوع هذه الملاحظات هو أنها تمارس هجرة معاكسة جغرافيا، هجرة إلى الوطن، إلى الجنوب أو الشرق بدلاً من الشمال. بعد أن هاجر كتابها إلى الجهات الأخرى عادوا بأعمالهم من حيث ذهبوا، عادوا إما بلغتهم، أي عبر العربية، أو بحكاياتهم، وفي الحالتين ثمة تجسير للفجوة التي خشي الكثير منهم أنها انقطعت أو كادت. غير من المهم التفريق بين أعمال كتبت بالعربية وأخرى بلغات أخرى من حيث صيغة العودة إلى الوطن. من كتب بالعربية كتب بها إما لأنه لا يستطيع الإبداع بغيرها أو لأنه يدرك أن قراءه هم القراء العرب وفي الوطن العربي، في حين أن من كتب بغير العربية كتب بها لأنه لا يستطيع الكتابة بالعربية فلا تكون اللغة وسيلته للعودة إلى وطنه. العودة إلى الوطن في الحالة الأولى هي اللغة والحكاية معاً، أما في الثانية فهي الحكاية وحدها (مع سعي بعض الكتاب لتضمين النصوص مفردات عربية تذكّر بهوية الكاتب وهوية الرواية معاً). اخترت من بين الأعمال الكثيرة التي يمكن تناولها في السياق المرسوم هنا ثلاث روايات اثنتان منها لكاتب وكاتبة من العراق، ورواية لكاتبة فلسطينية الأصل. الروايتان العراقيتان كتبتا بالعربية بينما كتبت الرواية الأخرى بالإنجليزية. العراقيان، دنى غالي وسنان أنطون، نشرا العديد من الروايات التي حملتهما بصورة أو بأخرى إلى الوطن دون أن تغيب البلاد التي هاجرا إليها. والأمر نفسه ينسحب على سحر مصطفى الفلسطينية الأصل الأمريكية المولد. دنى غالي المقيمة في الدنمارك منذ أوائل التسعينيات هاجرت من العراق أثناء الحصار الذي فرض على بلادها بعد غزو الكويت، وهي الآن مترجمة وكاتبة أذكر أنني التقيتها مرتين الأولى في نيويورك، في مناسبة ثقافية أقامها مركز كينيدي للفنون والثقافة، والأخرى في الرياض حين زارتها مع بعض الدنماركيين بدعوة من السفارة الدنماركية. تعرفت على بعض عملها نتيجة لتلك الصلة وكتبت عنها. أما سنان أنطون فقد تعرفت عليه بالمراسلة بعد أن كتبت عن بعض رواياته التي أعجبت بها وتابعت نتاجه المميز منذ ذلك الحين. تبقى سحر مصطفى التي لم أعرفها شخصياً ولكن صلتي بها قامت نتيجة لاهتمام إحدى طالباتي بها في مرحلة الدكتوراه، د. نورة قداح القحطاني، التي درست أعمالها ضمن روايات أخرى تفاعلت مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر وذلك في رسالتها التي نالت بها درجة الدكتوراه. صلات متشابهة ولكن في ظروف مختلفة، إنما الرابط هنا هو اهتمامي بأعمال أولئك، فهو اهتمام تولد نتيجة كوني شخصياً قريباً من تلك الظروف بمعنى أنني أجد نفسي على برزخ مشابه منذ بدأت صلتي بالآداب الأجنبية متخصصاً ومقيماً مثل غيري من المبتعثين في مجتمعات غريبة، وكان طبيعياً أن تتعمق الصلة أكثر بالقراءة والبحث والكتابة. مواسم العودة إلى الوطن هي مواسمي أيضاً إلى حد ما. من هنا نشأ اهتمامي بتلك الأعمال الروائية وفي تقديري أن ما تطرحه من إشكاليات يعرفه أو يعيشه كثير من أولئك العالقين في برزخ العلاقات الثقافية البينية وإن تفاوتت حدة الصلة أو عمقها. التفاوت واضح طبعاً في أن الروايات تحكي أوضاعاً لمغتربين أو مقيمين بصورة دائمة أو شبه دائمة خارج أوطانهم وفي ظروف تجعل العودة صعبة إما لأسباب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. سحر مصطفى المولودة في شيكاغو ابنة للمجتمع الأمريكي بقدر ما هي على صلة بمجتمع والديها وأسرتها. هي هنا وهناك لكنها هناك بصورة أكثر تجذراً من الكاتبين الآخرين. وينعكس هذا على الشخصيات التي ترسمها، فهي تتحدث عن أسرة من أصل عربي (فلسطيني) أنجبت أولاداً يعدون أمريكيين بالولادة وبالانتماء الاجتماعي والثقافي إلى جانب الارتباط الاقتصادي، أي جانب العمل. ويختلف ذلك إلى حد واضح عما نجد لدى العراقيين أنطون وغالي، ففي روايتيهما موضوع هذه الملاحظات نرى مغتربين حديثي الانتماء إلى مجتمعات غربية وما يواجهون من ظروف يختلف اختلافاً بيناً عما نجد لدى سحر مصطفى. لننظر في رواية مصطفى أولاً. الأسرة الفلسطينية في “جمال وجهك” (2020) تتألف من جيلين، جيل مهاجر وآخر مولود في مقر الهجرة. بطلة الرواية، وهي بطلة بالفعل، مولودة في أمريكا، كما هي الكاتبة، في حين أن والديها مهاجران. تنقسم الرواية إلى قسمين، أحداث تواجهها عفاف التي تعمل مديرة مدرسة إسلامية، وذكريات تسترجعها عفاف نفسها أثناء مواجهتها لتلك الأحداث. في قلب الأحداث هجوم إرهابي يشنه عنصري أمريكي على المدرسة الإسلامية ينتهي نهاية دموية أثناء الهجوم الذي تتخلله مفاوضات مع المهاجم يتضح أن الدوافع كراهية المهاجم للمسلمين في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر. غير أن المديرة العربية المسلمة في المدرسة مشغولة في الوقت نفسه بأحداث أسرتها التي تسترجعها في سرد موازٍ لأحداث المدرسة. تسترجع العلاقة المضطربة بين أبيها وأمها، أب نراه في البدء سكيراً لا مبالياً وأم مضطربة نفسياً وغير متدينة، وأخت كبرى تترك الأسرة وتختفي دون أثر. مع تقدم الأحداث يتغير الأب فيصير متديناً وتعود الأم إلى فلسطين. يذهب الأب ومعه عفاف ليؤديا فريضة الحج وبينما يتوفى في الأراضي المقدسة تعود الابنة التي تعمل مديرة للمدرسة. هذه الأحداث سبقت حادث المدرسة لكنها في ذاكرة بطلة القصة حاضرة ومؤثرة في شخصيتها وسلوكها. اضطراب الأسرة العربية يؤكد صعوبة التأقلم مع المجتمع الجديد، بينما يؤكد الهجوم رفض بعض عناصر المجتمع الجديد للاختلاف الثقافي. عالم مغاير هو ذلك الذي ترسمه دنى غالي في روايتها “عندما تستيقظ الرائحة” (2006) حول الأقلية العربية المقيمة في الدنمارك وصلاتها بالمجتمع المحيط. يغيب الإرهاب ومع أن العنف لم يغب تماماً فإن الرواية معنية بالتباينات المجتمعية من ناحية وبمحاولات الاندماج رغم تلك التباينات من ناحية أخرى. نعرف ذلك مما يقوله خمسة أشخاص ثلاثة منهم من العراقيين واثنان من الدنمارك، يقولونه لأخصائية اجتماعية دنماركية توظفها الدنمارك لمقابلة طالبي الإقامة. ما يقوله أولئك العراقيون للمحللة الراوية الدنماركية يتصل مباشرة بمساعي التأقلم والحنين إلى رائحة الوطن المفتقد. كون الراوية دنماركية يخلق وضعاً فريداً في الرواية العربية المهاجرة، وضعاً يتيح لنا تخيل الكيفية الي ينظر بها الآخر إلى العرب عامة والعراقيين خاصة. تبرز هنا شخصية مروى البصري التي تلعب دوراً محورياً لاسيما فيما يتصل بالارتباط بالوطن وتبدو من هذه الناحية أقرب إلى رؤية الكاتبة نفسها إذا ما قارناها بعراقية تغير اسمها لتصير دنماركية تماماً بعد انفصالها عن زوجها وكذلك عن الرجال العراقيين ذوي الرؤية الذكورية المغايرة بطبيعتها. كما أن مروى مختلفة أساساً عن الدنماركيين. لكن الزاوية الدنماركية مهمة، فمن خلالها تسعى الكاتبة إلى إضفاء المصداقية على النقد الموجه للدنمارك مؤسسات ومجتمعاً. نعرف هنا عن صعوبات الاندماج من خلال تعلق العراقيين بوطنهم من ناحية وتردد البلد المضيف في تقبل أولئك الغرباء بإخضاعهم للرقابة المستمرة. تخبرنا الراوية الدنماركية أن مروى في غمرة حنينها إلى وطنها وتبرمها بوضعها الحالي تتذكر “أنها في بلد لا يستضيفها فحسب وإنما يفرض عليها استضافة شديدة الانضباط، استضافة تحوطها الشكوك وتحرسها الكاميرات... لقد هربت من قمع النظام الديكتاتوري في العراق، وجاءت إلى نظام ديكتاتوري من نوع آخر”. تشبّه ذلك العالم الجديد بعالم 1984 في رواية جورج أورويل الشهيرة. ومما يزيد من حدة النقد الموجه للدنمارك أن مروى العراقية تكتشف أن الدنماركية التي تجري المقابلة معها هي نفسها تعاني من مشاكل اجتماعية تدفعها لتتساءل: “كيف يمكنك مساعدتي وأنت بنفسك بحاجة إلى مساعدة، أم أنني على خطأ؟” إذا كانت الغربة هي الموقع الأبرز في أحداث روايتي سحر مصطفى ودنيا غالي بالصورة التي تجعل الحنين يتجلى من بعيد، فإن الوطن هو المنطلق للأحداث وارتسام الشخصيات في رواية سنان أنطون “فهرس” (2016). نرى العراق التي يزورها بطل الرواية نمير قادماً من مقر إقامته في الولايات المتحدة. لكن وجوده في وطنه يظل وجود الغريب لأن انفصالاً حدث عن الوطن وهو الآن زائر في دور مترجم ضمن وفد صحفي أمريكي. يقول إنه بعد زيارته لوطنه العراق يعود “إلى البلد الذي لم يصبح ’هوم‘ بعد عقد كامل”. حين يعود نمير إلى مقر إقامته يحمل معه العراق وطناً وذكريات وأكثر من ذلك نصاً كتبه شاب مقيم في الوطن اسمه ودود. عنوان النص “فهرس” أي عنوان رواية أنطون، والنص يحكي معاناة شاب عراقي يحيا بين الكتب ويرسم معاناة عراق تحت الاحتلال الأمريكي. ثم لا يلبث نمير، الراوي المقيم في أمريكا، أن يتماهى مع ودود المقيم في العراق فيتماهى نصاهما في مقاومة للاحتلال ومسعى لتحرير الوطن وتحقيق عودة إليه وقد عاد حراً كما ينبغي له أن يكون. يقول ودود في فهرسه ما يمكن أن يقوله نمير أو سنان أنطون نفسه، وذلك في وصف مهمة الكاتب: “مهمتي بالضبط عكس مهمة القابلة أو طبيب الولادة الذي يقص الحبل السري بعد الولادة. فأنا أعيد نسج الحبال السرية بين الأشياء وأمهاتها. أعيد الأوتار إلى الى الأعواد المحترقة. أعيد الدمعة إلى العين”. تلك المهمة يمكن أن تصف وبسهولة الدور الذي تقوم به سحر مصطفى ودنى غالي أيضاً بل وروائيين آخرين كثر، على ما بينهم من تفاوت في وجوه سردية وموضوعية مختلفة. غير أن المساحة المشتركة بين ما أشرت إليه من أعمال هي في المقام الأول مساحة العودة إلى الوطن سواء بالتعبير المباشر أو من خلال اللغة. الكتابة بالعربية مؤشر واضح، لكن ضمن العربية تعمد بعض الأعمال، مثل رواية دنى غالي إلى تعميق الصلة اللغوية بتوظيف اللهجة المحلية، في حين توظف رواية سحر مصطفى مفردات عربية مدمجة في الجمل الإنجليزية. كل تلك وغيرها أساليب استعادة لوطن متباعد فيزيائياً متقارب إنسانياً. (ورقة ألقيت في الحلقة النقدية مساء الثلاثاء 16 سبتمبر 2025)