
هذا من أوائل ما كتب بالعربية عن طبيعة السلام الذي تريده إسرائيل، ظهرت طبعته الأولى عام ١٩٨١، كتبه الكاتب المصري المعروف محمود عوض، الذي توفاه الله عام ٢٠٠٩، واشتهرت كتاباته في السياسة وفي الفن، وقد نشر له الكثير من المقالات في صحف سعودية منها عكاظ والمدينة والرياض. يحلل الكاتب طبيعة السلام الذي تريده اسرائيل، وعادة ما تفرضه على الجانب العربي ، الجانب الاسرائيلي يريد فرض سلام القوة على العرب، بينما يفهم العرب السلام بمعناه الرومانسى، الذي يعنى سلام العدالة، يظن العرب أن ما قدموه بعد حرب عام ١٩٦٧ من تنازل كسب به الصهاينة شرعية قيام دولتهم على ٧٨٪ من مساحة فلسطين واكتفائهم بالباقي ٢٢٪ من مساحة فلسطين أمر هو ما يجب أن ينتهي إليه السلام، فحتى لو وافق أي طرف عربي على عدم الإصرار على أن يستعيد خمس مساحة فلسطين في اتفاقيةٍ للسلام، فهو يعتقد أن الخطوات التالية هى أن تقوم إسرائيل بإعادة الباقي، طالما أن خطوات السلام الأولى أظهرت حسن نية العرب وأعطت الصهاينة كامل الأمن. لكن الحقيقة كما سنعرفها تدل على أن الصهاينة لم يحيدوا أبدا عن سلام القوة، يبرهن الكتاب على ذلك من استعراضه لتاريخ معاهدات السلام التي تقدمت بها إسرائيل لمصر منذ عام ١٩٤٨ وحتى عقد معاهدة السلام النهائية بين مصر وإسرائيل والتي لا زالت سارية حتى اليوم. السلام بين الدول هو دائما مرآة لموازين القوى، كانت هناك قطيعة كاملة بين أمريكا والصين الشعبية، وقبل أن تسمح الصين لأول سفير أمريكي أن يطأ أرضها، كانت الولايات المتحدة قد دفعت الثمن نقدا ومقدما، وهو التخلي عن تايوان، وحلت الصين في مجلس الأمن بين القوى الخمس صاحبة حق الفيتو بدلا عن تايوان (الصين الوطنية) . وحينما تصر إسرائيل على جعل أشكال محددة من العلاقات الاقتصادية و الثقافية والسياسية نصوصا جوهرية في معاهدات السلام… فيجب أن ندرك فورا أنها تبحث لنفسها عن مركز متفوق داخل الدول العربية كمقدمة لبرنامج عمل تم التخطيط له مقدما، تحول إسرائيل قضية السلام إلى مساومات طويلة لا تنتهي، في قضايا فرعية تبعدنا عن القضية الأساسية، هذا ليس مجرد أسلوب للتفاوض وإنما هو استراتيجية مقصودة لذاتها، تحقق نتائج سيكولوجية محددة، تضخم في شعور المواطن العربي أنه يتفاوض مع إمبراطورية عظمى، وترسب في اللاوعي العربي أنها هي التي تضر وتنفع وهي التي تعطي وتمنح وهي التي تسود وتسيطر، وهي التي تقرر قواعد اللعبة كلها. وقد لخص كيسنجر الوزير الأمريكي اليهودي والصديق الصدوق لإسرائيل الموقف: “يجب أن يصاب العرب أولا بحالة من اليأس الكامل.. قبل أن يتحدث معهم أحد من اسرائيل عن السلام. “ يتوسع الكاتب في محاولات الصهيونية اختراق الوعي المصري أيام الاحتلال الإنجليزي عن طريق بعض الصحف التي أسسوها، والصحف الموالية للإنجليز مثل جريدة المقطم، وشركات الورق والإعلانات في مصر التي كانت تضغط على الصحف كى لا تتوجه ضد الصهيونية. ثم بمجرد إنتهاء حرب عام ١٩٤٨م قدمت إسرائيل لمصر أول مشروع للسلام. وقد اختارت تقديم المشروع إلى الملك فاروق عبر إثنين أحدهما إبراهيم عبد الهادي رئيس الديوان الملكى، و الآخر الدكتور محمد حسين هيكل وكان آنذاك رئيس مجلس الشيوخ، وهو الأديب المعروف، يذكر الدكتور هيكل في الجزء الثالث من مذكراته أنه بينما كان في زيارة إلى روما جاءه من أراد أن يرتب له لقاءً بإلياهو ساسون، كان ساسون قد قابل الدكتور هيكل قبل صدور قرار التقسيم في القاهرة وتحدث يومها عن التعاون المصري مع اليهود، التقى الرجلان في جنيف، قال ساسون: إننا نريد صلحا مع مصر، وقال أنهم لا يعنون بالعرب غير مصر، يقول هيكل : لما كان حديث ساسون لا يرضي آثرت عدم الاستمرار في حديث لا جدوى منه. ولم أحدث أحدا بما حصل. بعد ثلاثة أشهر توجه هيكل إلى باريس لحضور اجتماع الاتحاد البرلماني العالمي، وجاءه اتصال يفيد برغبة ساسون في الاجتماع به، وكان هيكل يعتقد أنه لن يحاول ذلك بعد لقائهما في جنيف، خاصة وأن القوات الصهيونية آنذاك كانت تحاصر كتيبة للجيش المصري في الفالوجة الفلسطينية. قدم ساسون مشروع معاهدة صداقة ومودة بين مصر وإسرائيل، وقال إنها قُدمت لرئيس الديوان الملكي ولم يأتهم رد، صعق هيكل حين قرأ المعاهدة المقترحة، وقال إنه لم يكن يتوقع أن يجرؤ أحد على تقديم مثله إلى مصر، فهو أقسى من معاهدة ١٩٣٦ التى فرضتها بريطانيا على مصر، تتضمن : صلحا منفردا، تحتفظ فيه إسرائيل بحق الفيتو على السياسة المصرية الخارجية، وهي معاهدة دفاع مشترك تخف فيها كل من الدولتين إلى حماية الأخرى في حال تعرضها لاعتداء، يعني أن مصر تنجد إسرائيل ضد أي طرف عربي مثلا، وتحصل إسرائيل على امتيازات جمركية واقتصادية في مصر تجعلها الدولة الأكثر رعاية. عرف هيكل فيما بعد أن الصهاينة قد أوصلوا مشروعهم إلى الملك فاروق، وخمن أن مثل هذه المعاهدة قد قُدمت بشكل منفصل إلى أكثر من أى دولة عربية. ولم تكف إسرائيل عن تقديم مشروعات مماثلة لم يتجاوب معها الملك فاروق، ولذا ظنت أن قيام الثورة قد يعطيها فرصة أخرى، بن جوريون رئيس الوزراء الصهيوني أذاع بعد قيام الثورة بشهر بيانا يهنئ فيه اللواء محمد نجيب وقال في البيان: أنه يتمنى أن تتفرغ مصر لشؤونها وتنفق أموالها على شعبها، الذي يشعر بن جوريون نحوه بكل الحب، حيث أنه شعب فقير ومحتاج لكل شيئ ما عدا الوقوف في وجه إسرائيل. يستعرض محمود عوض في ما يزيد على مئة صفحة مذكرات هنري كيسنجر عن أيام حرب أكتوبر عام ١٩٧٣ المنشورة بعنوان (crisis: the anatomy of two major foreign policy crisis) والذي لا أظن أنه قد ترجم إلى العربية، ويتابع كيف حاول كيسنجر أن يبعد مجلس الأمن الدولي عن إصدار أي قرار بوقف إطلاق النار قبل أن تحقق إسرائيل اختراقا يبرر لها ادعاء نصر، ثم تطلب مفاوضات مباشرة مع كل طرف على حدة، ويصر على عدم الإشارة إلى انسحاب إسرائيلي إلى حدود ١٩٦٧ كما يقرره قرار الأمم المتحدة ٢٤٢ ، و ألا تكون هناك إشارة مباشرة إلى تطبيق القرار إلا بعد التفاوض على النقاط الغامضة فيه، بقى كيسنجر يماطل رغم ضغوط رئيسه نيكسون وضغوط الاتحاد السوفييتي وبتفاقم الوضع أصبح هناك ضغط من الأوروبيين الغربيين. فتح الرئيس السادات خطاً سريا مع كيسنجر عن طريق رئيس استخباراته حافظ إسماعيل، و قد حقق جيشه انتصارا كبيرا، فقد عبر قناة السويس ودمر خط بارليف، كما استطاعت القوات السورية اختراق خطوط الهدنة وإيقاع خسائر ضخمة بالطائرات الصهيونية، رغم ذلك أرسل السادات رسالة فحواها أنه يثق أن أمريكا قادرة على الحل وأنه لا ينوي التقدم أكثر بجيشه في سيناء وأنه يريد وقفا لاطلاق النار وانسحابا اسرائيليا إلى حدود عام ١٩٦٧، وفي الرسالة الثانية يقول السادات أنه لا يرغب في تدمير إسرائيل وإنما يريد انسحابا اسرائيليا وسلاما مشرفا، كيسنجر يماطل فيما يشحن لإسرائيل كل ما يعوض أسلحتها المدمرة سواء من أمريكا على طائرات مدنية، أو من قواعد أمريكا في أوروبا، و تتواصل رسائل السادات، و يعرض التفاوض مع الإشارة إلى قرار ٢٤٢ ، وبعدها يعرض التفاوض مع عقد مؤتمر سلام دولي، وظل كيسنجر يضيع الوقت حتى استطاعت إسرائيل اختراق الخطوط المصرية في ثغرة الدفرسوار، واختراق الخطوط السورية على طريق دمشق، وهنا اتفق كيسنجر مع السوفييت على وقف إطلاق النار مع بقاء القوات من الجانبين على خطوطها، وعند ساعة وقف إطلاق النار بدأ الطرفان يشتكيان من اختراقات، وتقدمت إسرائيل لتكمل تطويق الجيش الثالث، وترفض إسرائيل التراجع إلى خطوطها عند صدور وقف إطلاق النار، ويبرر كيسنجر بأن الخطوط لم تكن واضحة، ثم ترفض كذلك رفع الحصار عن الجيش الثالث، وأخيرا يوافق السادات على اجراءات مباحثات مباشرة للاتفاق على التفاصيل العسكرية لوقف إطلاق النار، مع سماح اسرائيل بدخول قوافل إغاثة غير عسكرية للجيش الثالث، وهكذا دخلت اسرائيل المفاوضات من مركز قوى فهى تحاصر الجيش المصري الثالث، كذلك انتهى الربط مع قرار ٢٤٢ ، وتوصل الطرفان إلى حل غريب، إذ اقتنع الرئيس السادات بكلام كيسنجر أن المشكلة مع إسرائيل هى حاحز نفسي وأنه متى تطمئن إسرائيل إلى نوايا مصر وإلى أمنها فإنه يمكن التوصل إلى الحل الدائم، وبعد الكثير من التفاصيل وافق السادات على أن يتضمن الحل قيودا على تسليح الجيش المصري الموجود خلال مسافة ٢٠ كيلا غرب القناة، وبالمقابل تنسحب أغلب القوات المصرية من شرق القناة فلا يبقى إلا ثلاثة كتائب أى ١٨٠٠ مقاتل من مجموع سبعين ألفا متواجدين فعلا شرق القناة، ولا يكون معهم إلا ثلاثين دبابة في مساحة ١٨٠٠ كيلا مربعا وليس هناك أي حماية طيران. فرضت اسرائيل ما تريد وكأنها كانت منتصرة. ودارت أيام كثيرة ثم حصلت زيارة السادات للقدس وتخلت إسرائيل عن سيناء ولكن بعد أن فصلتها عن غزة (التي كانت مع الجيش المصري يوم احتلتها اسرائيل عام ١٩٦٧)، وتم تقسيم سيناء التي تبلغ مساحتها الكلية ستين ألف كيل ٍ مربعٍ إلى ثلاثة أقسام، الثلث الغربي يُسمح بوجود ثلاثة ألوية مشاة أفرادها اثنان وعشرون ألفا، و ٢٣٠ دبابة و ٤٨٠ مركبةٍ مدرعة، ولا غطاء جوي، الثلث الأوسط يُسمح فيه بوجود أربعة آلاف جندي، مجهزين بأسلحة خفيفة، أما الثلث المتاخم للكيان الصهيوني فيسمح فيه بوجود قوات سلام دولية و قوات شرطة مصرية مدنية مسلحة بأسلحة خفيفة، وبالمقابل فإن منطقة عمقها اثنان ونصف كيل من الحدود من الجانب الإسرائيلي لا يكون فيها إلا أربعة آلاف جندي صهيوني معهم مركبات مدرعة و صواريخ أرض جو. وهذا يعني أن سيناء تكاد تكون منطقة منزوعة السلاح، وإذا أرادت مصر إدخال طيران لقتال الإرهابيين في سيناء مثلا فلا يجوز أن يحدث هذا إلا باتفاق مع الدولة الصهيونية. ذلك هو سلام القوة الذي تريده اسرائيل، والذي يسمح لها بضرب أي موقع في العالم العربي كما حدث مع قطر. أحبط الله سعيهم.