
(1) حين أكتبُ عن أستاذنا الراحل عبدالله نور - رحمه الله - فأنا أكتبُ عن ذلك “ النورِ “ الناضجِ العميقِ الذي كان يناضلُ بشراسةٍ ضدَّ الذين كرَّسُوا حبرَهم زمنًا طويلًا في مديحِ الظلام. لقد كتبتُ عنه وهو حيٌّ مثمرٌ ومقمرٌ بيننا ، وهاأنذا أكتبُ عنه - وهو الغائبُ الحاضرُ - من بابِ الوفاءِ مدفوعًا بمحبَّةٍ عميقةٍ له شخصًا ونَصًّا ودورًا باسلًا في معتركِ الكتابةِ والثقافةِ والصحافةِ والحياةِ والتنوير، فهو قارئٌ نَهِمٌ ومثقفٌ كبيرٌ منفتحٌ على ثقافاتٍ مديدةٍ وآفاقٍ عريضة. كان يقرأُ كثيرًا حَدَّ الغرق ونسيان ما حوله ، وكان يغلقُ على نفسِهِ حُجْرَةَ المكتبةِ مستسلمًا لغوايةِ كتابٍ أو كتبٍ تتدفقُ جمالًا وإبداعًا ونورًا بين يديه ..وعندما يزورُ صديقًا ويكتشفُ مكتبةً وارفةً في بيتِهِ يطلبُ منه أنْ يوصدَ بابَ تلك المكتبةِ عليه ؛ ليمكثَ هنالكَ أيامًا معتكفًا بين أرغفةِ النور غير مكترثٍ بضجيجِ الحياةِ في الخارج ، فالمكتبةُ في وعيه العالي هي عالَمٌ كبيرٌ مفعمٌ بالحياةِ ، بل هي الحياةُ ذاتُها التي تملأُ قلبَهُ بالأعيادِ الأنيقةِ وبالأفكارِ الناضجةِ التي لا تهجسُ بالانطفاء. (2) في اهتماماتِهِ الثقافيةِ كان يؤاخي بين القديم والحديث ، ولقد كان يغرسُ قدمًا في بستانِ الماضي وقدمًا أخرى في حديقةِ الحاضر ، وكان يجلسُ على ضفافِ الموروثِ بوعيٍ عميقٍ كما يجلسُ على ضفافِ المنجزِ الحداثيِّ بما يضاهيه من وعيٍ أو يزيد. عبدالله نور يمتلكُ لغةً بهيَّةً حين يكتبُ ..وحين يعتلي المنبرَ متحدِّثًا أو مرتجلًا كانتِ اللغةُ تتوهجُ في فمِهِ ، بل كانت سخيَّةً معه فيما هي تمنحُهُ أقمارَها وسحرَها وفتنتَها. وإنَّ من أهَمِّ صفاتِ “ نورِنا “ هذا تشبثُهُ ببسالةِ الفُرْسَانِ في قولِ ما يراهُ صدقًا وحَقًّا، فضلًا عن أنه يمتلكُ حساسيَّةً نقديَّةً عاليةً وجريئة. (3) في وقتٍ من تلكَ الأوقاتِ المزهرةِ كان عبدالله نور حاضرًا بكتاباتِهِ المؤثّرةِ ومشاكساتِهِ البارعة ، واستطاعَ بحضورهِ الحثيثِ أنْ يحفرَ اسمَهُ عميقًا في الذاكرةِ ، وانْ يكونَ مِلْءَ السمعِ والبصرِ والأفئدة، ولقد كانت له مآثر رائعة أهمُّها وقوفُهُ النبيلُ خلفَ عددٍ من المبدعين الشباب في زمنٍ يهيمنُ عليه الانغلاقُ وتسودُ فيه الريبةُ من أيِّ جديدٍ يحاولُ انْ يرفعَ رأسَهُ مثل شمسٍ جريئةٍ غير مكثرثةٍ بنوايا العتمةِ الحالكة ، إذْ كان يشكِّلُ لهم بوصلةً حصيفةً دالَّةً على الجمال ، وكان قلبُهُ الجميلُ يدفعُ هؤلاء الواعدين المثقلين بالغيومِ وأعراسِ المطر إلى حقولِ الإبداعِ الجديدِ واللغةِ الطازجة ، فاتحًا أعينَهم على كتبٍ مقمرةٍ وتجاربَ مثمرة ، وكان في كلِّ مناسبةٍ ينافحُ عن غصونِ التجربةِ الجديدةِ أمام توحشِ تلك الغابةِ المؤثثةِ بالغبار ، فَكَمْ جَنْدَلَ عددًا من الأغبياء ، وَكَمْ أسكتَ أدعياءً وانتهازيين وكَذَبَةً وكَتَبَةً كانوا يتوهمون أنَّ رؤوسَهم ترفعُ سقفَ السماءِ وتحتكرُ الآفاق. (4) في حياتِهِ المليئةِ بالأحلامِ الجميلةِ كان “ نورُنا “ الطويلُ كنخلةٍ يحلمُ بمشاريعَ ثقافيةٍ عريضةٍ ، وكان يفصحُ عنها في كلِّ مناسبةٍ أو لقاءٍ أو حوار ، لكنَّ الظروفَ - فيما يبدو - لم تكنْ مواتيةً ولم تسعفْهُ كي ينجزَ ما كان يحلمُ بِهِ وما كانَ يتمنَّى الوصولَ إليه على شاطئ الواقع ، فهو كما يتجلَّى لي دائمًا السفينةُ الأنيقةُ التي غدرَ بها البحرُ وأنْكَرَتْها الرياح. (5) من الحكاياتِ الطريفةِ التي تستحقُّ أن تُروى عن أستاذِنا عبدالله نور هذه الحكاية : كان يعشقُ “ لامية العرب “ للشنفرى التي يخبِّئُها عميقًا في القلب ، وكان يحفظُها ، وكان يستعيدُها بسهولةٍ متى شاءَ خصوصًا حين يكونُ المزاجُ رائقًا..حينما يتجلّى يلقيها على المتحلّقين حولَهُ بطريقةٍ مدهشةٍ ، طريقةٍ تسرقُكَ من همومِكَ الثقيلةِ كالرصاص ، ومن ضجرِكَ الغبيِّ الذي يضعُ ساقًا على ساقٍ ؛ لتجدَ نفسَكَ محلِّقًا في الأعالي تكادُ تلمسُ خَدَّ السماء. (6) وكما هو متذوقٌ حصيفٌ للشعرِ العربيِّ القديمِ نجدُهُ متذوقًا حصيفًا أيضًا للشعرِ الحديث..يتجلَّى تذوقُهُ أكثر ما يتجلَّى حين يصدحُ بقصيدة “ دانْ ..دانْ “ للشاعر الفلسطيني الكبير فواز عيد الذي أقامَ بيننا زمنًا طويلًا ، والذي ثَمَّنَ أستاذُنا عبدالله نور شِعْرَهُ وتباهى بتجربتِهِ المميزةِ في كلِّ محفلٍ ثقافيٍّ أو ملتقًى إبداعيٍّ قبلَ أنْ يمتدحَهُ الشاعرُ الكبير محمود درويش بعبارتِهِ الشهيرةِ هذه : “ إنّني تعلمتُ من فواز عيد “. (7) في هذا السياقِ من المدائحِ الجميلةِ التي تليقُ بنورنا الشاهق ، أتذكَّرُ هنا بجلاءٍ حديثَ أستاذِنا الصحفيِّ الكبيرِ وأحدِ روّادِ القصةِ الحديثةِ في بلادنا الراحلِ سباعي عثمان - صاحب “ الصمت والجدران “ - وهو يستعيدُ جمالياتِ عبدالله نور ومآثرَهُ البهيَّةَ في ذلك الزمنِ الذي يكادُ يكونُ بعيدًا. قالَ سباعي بصوتِهِ الرخيم وبكلماته البطيئة كما هي عادتُهُ حين يسردُ الذكرياتِ كما لو كان يتلذذُ بسردِها : “ الوسيلةُ الوحيدةُ التي كانت تقلُّنا من مبنى الصحيفةِ إلى مقهًى يتقنُ بهجةَ السهر - في ذلك الوقتِ المتأخرِ من الليل - هي صوتُ عبدالله نور وهو يصدحُ بلامية العرب للشنفرى ..كان إلقاؤُهُ الجميلُ المؤثّرُ يقصّرُ المسافةَ ويُنسينا تعبَ السيرِ بعد يومٍ صحفيٍّ مُضْنٍ وَصَفَهُ الشاعر محمود درويش ب “ طاحونة اليومِ المعتاد “. (8) عبدالله نور يمتلكُ حساسيَّةً رائعةً تجاه اللغة العربية ، فهو يعلمُ أسرارَها ومفاتيحَ جمالِها وتجلياتِ فتنتِها وإنْ كان يلقي محاضرةً وليس نَصًّا شعريًّا فارهًا ..إنه يعلمُ جيدًا كيف يحرّكُ غصونَ شجرةِ الفصحى ويفعلُ بها كما تفعلُ النسائم، وهو أيضًا يعلمُ كيف يجعلُ صامتَها ناطقًا بليغًا يأسرُ الروح. (9) حين كنتُ تلميذًا في المرحلةِ الثانوية - حيثُ أعيشُ في “ جزيرة فرسان “ المطوَّقةِ بالزرقةِ والأحلام - كنتُ أتابعُ بشغفٍ ما يكتبُهُ “ نورُنا “ الكبيرُ في مجلةِ “ اليمامة “..لقد كانت رائحةُ “ عَرَارِهِ “ تملأُ الرئتين الغضتين ، وكلما لامَسَتْ عيناي كلماتِهِ كانت تضوعُ رائحةُ العَرَارِ في غرفتي الصغيرة..لقد كانت زاويتُهُ تلك محرضةً على القراءةِ والثقافةِ واقتناءِ الكتبِ الجميلةِ والنادرة ، وكان كلُّ نَصٍّ من نصوصه يجعلني قريبًا من رائحةِ الأهلِ وعبقِ الأرضِ وسِرِّ اللغة. (10) أخيرًا أقول : هذا الاسمُ الكبيرُ في ساحةِ الأدبِ والثقافةِ شاهدتُهُ مرتين فقط..لم أجرؤ على الذهابِ إليه لمصافحتِهِ والسلامِ عليهِ تهيُّبًا ، فقامتُهُ المديدةُ جعلتني أكتفي بالنظرِ إليه والإصغاءِ إلى كلامِهِ من بعيد ..لقد احتفظتُ بمسافةٍ ما بيني وبينه ؛ رُبَّما لكي تظلَّ صورةُ مَنْ كنتُ أقرأُ له وأنا صبيٌّ غَضٌّ على بسالتِها ونضارتِها وفتونِها ..ثم ما الذي يمكنني أنْ أقولَ في حضرةِ عبدالله نور ذلك “ الأستاذ “ الذي كان مليئًا بالرعودِ والوعودِ والغيومِ و المطر ؟