الكتابة وضرس الفرزدق.

يُنسب إلى الفرزدق قوله: “إن خلع ضرسٍ أهونُ عليّ من قول بيتٍ من الشعر.” وفي الحقيقة، ينسحب ذلك على الكتابة أيضًا؛ فالفكرة قد تولد في الذهن لامعةً، ثم تخبو كقنديلٍ نفد زيته، حين تشعر أنك لم تأتِ بجديد. لكنك تعود إليها بعد حين، لتكتشف أنك قادرٌ على تناولها من زاويةٍ مختلفة. اللغة وطريقة التناول، إلى جانب المخزون الشعري والثقافي، كلها عوامل وأجهزة إنعاش تُعيد للفكرة نبضها بعد موات، وتجعل ما ظننته عابرًا يتحول إلى كنزك المفقود. أحيانًا تظن أن بعض الأفكار انطفأت داخلك، ثم تعود إليها بعد زمنٍ فتجدها أثمن مما ظننت، وتستحق أن تُكتب. فالكتابة ليست أمرًا يسيرًا كما يتخيل البعض، كما أن قول الشعر ليس سهلاً عند جميع الشعراء. إنها أشبه بخلع ضرسٍ حين يحترم الكاتب نفسه، ولا يريد أن يقدّم كلامًا عابرًا. نحن ندور أحيانًا في فلك السائد والمكرور، وهذا طبيعي، لكن هناك ظلالًا غير مرئية ترافق الكاتب أو الشاعر، هي معاناة تستحق أن تُروى وتُفهم. فالكتابة مسؤوليةٌ وحفرٌ متواصل، وعلاقة مراودةٍ ومشاكسةٍ بين القلم وصاحبه، وبين الكاتب وأدوات عصره. ليس على الكاتب أن يتعامل مع كل فكرةٍ تمر في ذهنه بمنطق من يضع العربة أمام الحصان، فيعرقلها لمجرد أنها مطروقة لا تُضيف جديدًا. فالجمال لا يكمن دائمًا في الفكرة ذاتها، بل في طريقة التناول وثوب اللغة الذي ترتديه، واللمسة الفنية التي تمنحها الحياة، تمامًا كما يفعل الشاعر حين يُطلّ علينا بقمرٍ غير ذاك الذي نراه في السماء. يقول الشاعر مبارك بن ناجي الشريف رحمه الله في صورةٍ آسرة جعل فيها القمر مطلًّا على محبوبته: لاوهني القمر مشرف على خِلِّي مشرفٍ على غرَّةٍ ربي مسويها ياليتها يا القمر مثلك تباين لي والليل كله تراعني واراعيها إن جمال الكتابة لا تحدده جِدّة الفكرة بقدر ما تحدده رؤية الكاتب واتساع أفقه؛ فالكثيرون يرون الشيءَ نفسه، لكن القليل منهم يُقدّمونه بطريقةٍ تُدهش القارئ. دعني أرى معك الزوايا التي لم أنتبه إليها، والأبعاد التي تُعيد تعريف ذلك المألوف. بعد كل ذلك، كيف ترى معي الآن قول كعب بن زهير: ما أرانا نقولُ إلا رجيعًا ومعادًا من قولِنا مكرورًا