
ظلت رفعة زوجة الشاعر مفتاح، ترضى بما قسم الله لها مع زوجٍ فقير، لا يملك شيئاً من حطام الدنيا، إلا لسان ذربٍ، يتسول بما يفيض به من بذاءات، يدلقها في المناسبات، ليحصل على مكافأة، يجود بها عليه الخلق، كمؤنة للشتاء والصيف، تكفي زوجة حولاء العين اليمنى، لم تنجب له ولداً ولا بنتاً، وقطة سوداء تربض كل ليلة جوار موقد النار، ولكن الزوجة القانعة بما قسم الله لها، تُفجع كل صباح بسرقة عجينة، تضعها إلى الصباح، لتختمر في الموقد، ولما تكررت مرات السرقة، باحت لمفتاح بما عكرّ صفوها، وأزعجها، فقال لها غير مصدق: - من ذا الذي تسول له نفسه، ولا يجد غير عجينتك ليسرقها؟ حام السؤال ببالها طويلاً، وحينما لم تجد من تشك به، صارحته: - أظنك أنت السارق، حينما تعود في أنصاف الليالي جائعاً، فلا تجد شيئاً تسد به جوعك غير عجينتي؟ ضحك مفتاح طويلاً، ولأنه عريق في صنع المقالب، وإلقاء الشعر الفاحش، والنكات للناس، أراد أن يبرئ نفسه من تهمة زوجته، لئلا يلتصق به عار جديد، فأقترح على زوجته رفعة، أن تضع عجينتها في الموقد، وتسمى عليها بالمعوذات، وتضع خميرة بالماء بدون تسمية، وظل تلك الليلة يراقب العجينة والخميرة، ولما انتصف الليل سمع طرقاً على باب بيتٍ صغير كالكهف، وفجع لما شاهد قطتهم السوداء، تنهض من مكانها بجوار الموقد، وتتخذ شكلاً مغايراً، وتفتح لأنثى أخرى قادمة، فسألتها الأخرى بلهفة: - لماذا تأخرت، الجماعة في انتظارك؟ ردت القطة السوداء: - راعية البيت، سمّت على العجينة، ولم تسمّ على الخميرة!ّ - هات الخميرة ودبري أمرك! ردت الأنثى القادمة مفتاح لم يفش في النهار سر القطة السوداء، ولم يفض إلى زوجته رفعة بأمر عجينتها، ولكنه طلب منها، زيادة في العشاء، لأن ضيفاً عزيز سيقاسمهما عشاء الليلة، ففعلت، ولكن الضيف المنتظر طال انتظاره. ولما يئست رفعة قدمت العشاء، فكانت هي ومفتاح، وثالثهما قطتهما السوداء، وسرعان ما خاطبها مفتاح، قائلاً: - يا ضيفنا، تفضلي حياك الله! تلاقت الوجوه، وساد الخوف والصمت، فأردف مفتاح: - عليك أمان الله.. ولنا منك مثله.. تفضلي للعشاء. هزت القطة السوداء ذيلها، وقذف لها مفتاح بنصيبها من العشاء، فصارت رفيقة له، ترافقه حضور المناسبات، وتبقى معه متى طاب لها البقاء، وتلوذ به في طريق عودته، تتمسح به حتى تدخل معه بيتاً كالكهف، تربض بجوار الموقد، وتنام إلى الصباح لا يطرق لهما باباً، ودون سرقة عجينة رفعة. ذات ليلة، كان عائدا من سهرة، يعبر الوادي بجوار غدير ماء، تحفُ به الأشجار العالية من كل الجهات، ليمضي إلى بيتٍ كالكهف في الجبل، فوجئ بالقطة السوداء، تسأله بصوتٍ غاية في العذوبة: - مفتاح تسمع؟ - ماذا أسمع؟ - غناء الجماعة وطربهم؟ - لا أسمعهم.. ولكنك تعرفين أني أحب الغناء والطرب؟! كانت في هيئة أنثى بارعة الجمال، تقوده بنشوة إلى بابٍ واسع، قدّ من صخر في الجبل، فُتح لهما بمجرد وصولهما، رحُبّ بهما بشدة رجل، يجلس فوق كرسي من المرمر، في فمه مسواك لأسنانٍ بيضاء، كان جمع كبير، خليط من جماعة القطة السوداء، يرقصون ويغنون معاً رجالاً ونساء، يندمج مفتاح معهم بسرعة في حالٍ من بهجة، لم يخرج منها أبداً.