قراءة في دبوان الشاعر حاتم الجديبا (ارتباك)..
تميّز في استثمار اللغة وتشكيل الصورة وخصوصية التعبير المجازي.

اللافت في هذا الديوان أسلوب الشاعر في التعامل مع اللغة، فهو يختار مفرداته وتراكيبه من السياق الشعبي الدارج ويدجّنها في تفاعل دلاليٍّ مع النّفَس الشعري ؛ فهو يستثمر بعض الألفاظ الشائعة في لغة العامة ؛ مما يمكن أن يُعدّ من معجم اللغة الثالثة ، مثل لفظة (التكشير) وعبارة (مكسورة الخاطر) فينقل القاريء فيها إلى الأجواء الاجتماعية المألوفة في حالات التأزّم والغضب، ويطوّع الشعر ليتفاعل مع الحالات النفسية الطارئة بين الأزواج والأحباء، ويجعل من هذه الحالات الطارئة لحظات شعرية وجدانيّة ، فتتحول المشاهد المعتادة في الحياة اليومية إلى صور فنيّة شعريّة ، فيتمرّد الشاعر على البلاغة التقليدبة لصالح المشهديات المباشرة في سياقها الشعبي الحميم في حوار ضمني يستدعي فيه المتلقي الطرف الآخر في لحظة الأزمة ، ويحتشد في انتظار انفراجة التنوير، ويسترسل الشاعر في انهمار التداعيات والمناجيات التي يسترضي بها الطرف الآخر. وفي منحىً آخر يميّز منهجه في النعامل مع اللغة التي يستثمرها في رسم المشهد في المزج الواعي بين العناصر الماديّة و المعنوية في مجازاته وصوره الفنية، والانتقالات المفاجئة فتبدو عملية التصوير وكأنها إعداد للوحة فنيّة يتم فيها مزج الألوان لتفضي إلى تشكيلٍ جماليٍّ يشي بدلالات خفيّة، كذلك فإن له رؤية خاصة للاشتقاق اللغوي من الأسماء الدالة على المحسوسات الأسماء الجامدة صرفيّاً ، مثل (أوتد وغيّم) في شكل من الأشكال القائمة على التشريع المنفلت من التقليد في النحت و الاشتقاق اللغويين. واقتران الصفات الحسّية و المعنوية (الفج الهادر) وإلى جانب هذه الاختراقات اللغوية ثمة ظاهرة أخرى تتمثل في التناص الذي لا يستعير النص بحذافيره ؛بل يوحي بمدلولاته من خلال استثمار عناصره ومكوّناته (غلطة الشاطر بألف) وهذا المثل يتسق مع المتن النّصي وموضوعه ودلالاته ؛ إنه يوحي به مجرداً من خلال استخدامه لمفردة واحدة من مفرداته؛ وهي كلمة (الشاطر) لقد استثمر النداء في مناجاته مُكنّياً عن المخاطبة بعبارة (أميرتي) وجاء خطابه متشكّلاً عبر أسلوب منطقي يبتغي الإقناع، معتذراً متقرّباً متوسّلاً واصفاً متعللاً مازجاً في أطروحته الاعتذاريّة بين منطق العقل وعاطفة الوجدان ، مطيلاً المُكث في التماس الوسائل .مستثمراً حقولاً دلاليّةً عدّة في مرافعته مازجاً بين معاني العشق والاعتذار ،وملتمساً الأدلّة وموثقاً لها ومبينّاً النواية وضارباً الأمثال، ومستحضراً الحجج ممّا يجعله متميّزاً عن الشعراء من أقرانه في جدية الخطاب والتفاني في الاعتذار وضرب الأمثال وحاشداً المفردات ؛ الأمر الذي بدا فيه وكأنه يعترف في هذا الموقف لمن يخاطبها مستدركاً ما كان يمكن أن يكون أخطأ فيه بطريقة مغايرة لما جاء به الشعراء قبله في هذا المقام. ولعل فيما يبدو أنه محور من محاور النصوص في الديوان حول (الأنثى المعشوقة) مخاطباً مقصودا تتحول الذات الشاعرة إلى راوٍ للتجربة مفصحاً عن جوهر الموقف في مناجاة سافرة وبثٍّ مباشر ، فهو يروي عن المخاطبة معاناتها وينطق باسمها و يتماهى مع مشاعرها ؛ ويتعامل مع حواسها وجوارحها مستقلة عنها باثة شكواها في ملمح جمالي يكثّف الإحساس بمشاعره نحوها وتفاعلها مع هذه المشاعر، فهي في صوتها مرآة كاشفة وصدى يردد وجيب قلبه ؛ إنه يعمد إلى ازدواج الصوت وارتداده وتوحّده ؛ وهو - فضلاً عن ذلك - يشخّص الجمادات و يفعّل المعنويّات في سلسلة من المجازات في دفقٍ حيويٍّ ونبض خافق، ويجسّد ذلك عبر ظاهرة لغويّة دلاليّة تتمثل في تكثيف الصيغ النحويّة ممثلة في اسم الفاعل في قصيدة و الأحوال في أخرى، والمصادر المطلقة المعنى المجردة من المكان و الزمان ، وصيغ المبالغة واستثمار مختلف الصيغ الاشتقاقية في تعزيز الدلالة : مرّ بي صوتها المعنّى ملولا راسما من تراث نبضي فصولا مرّ بي ناثراً هديل الحكايا فوق سطح النسيان تنمو فصولا إنه يعمد إلى المقابلة بين التحولات الطبيعية و الظواهر الكونية من جانب والفعل الإنساني من جانب آخر ، وكذلك التناصّ في إلماحات وامضة، واستحضار لمواقف يسقطها عل الحالة الشعريّة لتضيئها و تستعيدها كما في استعارته للفظة (آذنتنا) التي تستحضر قول الشاعر: آذنتنا ببينها أسماء رب ثاوٍ يمل منه الثواء وكذلك “ بعد عهد لنا” في قوله بعد عهد لها ببرقة شمّا فأدنى ديارها الخلصاء للشاعر الحارث بن حلزة اليشكري في معلقته المشهورة التي يوميء بها إلى الموقف الذي آلت إليه الحال . وأكثر ما يلفت الانتباه في هذا الديوان الحس اللغوي الثري نحواً وصرفاً و بلاغة مجازاً و بديعاً و معجماً و دلالة ، حيث المزج بين الظواهر الدلاليّة و الصرفية و الاستعارية على نحو واضح الإيحاء و ثراء المعنى ، وكذلك تحويل الأفعال اللازمة إلى متعددة وفقا لمنهجه في التحويلات الدلاليّة في اللغة وتطويعها و التصرف بها ظاهرة أسلوبية شديدة الوضوح . في منحى آخر يرتبط بعنوان الديوان (ارتباك) و يتفرّع عنه تتبدّى ظاهرة أخرى ؛ ففيما سبق كان الارتباك في موقف العشق والمواقف المرتبطة بالوصل و الصّد والرضا يتخذ من الأنثى المخاطبة مرآة ً للوجدان و قرينةً للحب والوصل و الصّد ؛ أما في قصيدته ( خلوة بالظنون ) فنحن أمام محور جديد ، ينطلق من الوعي ويتمترس خلف الإنكار و الاستنكار، تتكدّس في معجمه الشعري جملة وافرة من أسماء المعاني تتّسق مع منهج الشاعر في استثماره للغة ومشتقاتها و ألوان الدلالة فيها ؛ حيث تحتشد المصادر في مفردات القافية وفي العروض و الضرب ، وتُتبدَع النزعة الحدية في التصوير و التوصيف في نزعة غاضبة مستنكرة ، أقرب إلى منطق الهجاء ؛ ولكن على نحو مختلف عمّا هو مألوف في تراثنا الشعري، فالمهجو ّليس شخصاً بعينه ؛ بل نموذج موصوف بجملة من النعوت السلبية في دلالاتها المجرّدة غير المتعيّنة عبر الجمل الخبرية و التقريرات المنطقية والنعوت الحجاجيّة و التوصيف والرسم عبر (بروتريه متخيل) مشتقة أوصافه من معجم هجائي مألوف : السخف و الجهالة وسوء النوايا والانطفاء والارتخاء وما إلى ذلك من مطلقات الصفات المرذولة، والاستدلالات المنطقية ب(ديكارت) والاستفهامات التقريريّة و التعبيرات الفلسفية (الما وراء) ما إلى ذلك .. واستثمار للثنائيات الضديّة والتلوين اللغوي عبر منطق النحو ، حيث تتوالى الأحوال و الأفعال المضارعة و المصادر في مجوعات متّسقة عبر الأبيات في توالٍ وندرّجٍ وتوافق و تخالف بين حين وآخر . و النزعة التجريديّة الفلسفيّة تبدو واضحة في الديوان كما في قصيدته (فقد) التي تتسم بغموض مقصود يفضي إلى تحويل الموقف الذاتي إلى رؤية ذات طابع فلسفي الفقد ينهك رؤيتي و تخلّقي ويشقّ ثوب تفاؤلي و تأنّقي ويورق حولي عجاج تكدّرٍ يكتظ بالتخذيل حيث تشرّقي فتوالي الإضافة إلى ياء المتكلم يوحي بنزعة غنائية بوحية ذاتية؛ ولكن مطلقات الدلالة في معجمه اللغوي تحيل إلى مفاهيم فلسفية عامة ؛ فثمة ما يكدّر صفو العيش وينغّص الخاطر عبر الفقد بمفهومه المطلق وهو حدث ينطوي على مفاهيم كبرى : الموت على سبيل التمثيل و الفراق و الفقر و القلق و اليأس و ما إلى ذلك وهو ما يفضي إلى التعميم و الخروج من عباءة الذات ومنطق التعبير عن المأزق الفردي إلى معان رحبة تحيط بكثير من المعاني و تستدعيها لتتجاوز الموقف المفرد على الرغم عن توالي ياء المتكلم و الإيحاء بذاتية التجربة والمشاعر، وفي خطابه للفقد مستعيرا لفظة الغيم تنحو به منحى آخر وتلحّ على منطق التمركز في الذات وخصوصيتها وعذابها ،ويتمثّلها غيمة بوصفها ظاهرة كونية ربما يخالف ما ذهبت إليه من منحى فلسفي ؛ ولكن الشاعر ما يلبث أن ينحو بها منحى آخر في قوله: للفقد خوف أطّرته مشاعري وخواطري و تجمّلي وترفقي استغراق في البوح لذاتي يقود إلى تصوّر كلي للفقد في مطلقاته المجردة عبر الفناء في الذات وتوحّدها وتلمّس أوجاعها وهمومها. ثمة الكقير من الظواهر الموضوعيّة والفنيّة في الديوان، و لعل بعض الدارسين يكرّس بحثاً متكاملا عنها فهي تستحق اهتمامًا أوفر في مجال أوسع. ولا أملك إلى أن أؤكد – رغم مألوفية المضامين في قصائد الديوان وشيوعها- فقد كان للشاعر خصوصيته في التشكيل و الصياغة والتعبير متمثلة في استثماره للغة وخصوصيته في التعامل معها فضلاً عن قدرته على التعبير المجازي المتميز والتصوير المتفرّد.