البلاغة الرقمية!

طرح الدكتور جميل عبد المجيد نموذجا ثلاثيا للبلاغة الرقمية يرتكز على ثلاثة أنواع هي بلاغة التلاعب والبلاغة المتعددة والبلاغة التشعبية، وقد قدم مجموعة من الإجراءات والقراءات للنصوص في هذا السياق الرقمي الذي يستند على الخطاب التقني المنبثق من الحوسبة. ومما لفتني في تناوله للبلاغة الرقمية الانطلاق ابتداء من البنية الثلاثية التي ارتكز عليها منهجه في بناء الخطاب البلاغي الرقمي. ويمكن من خلال الربط أن نحيل بلاغة التاعب في أكثر إجراءاتها إلى البديع، في حين تجمع البلاغة المتعددة بين علمي البيان والمعاني، حيث التصوير والتراكيب، مع توسيع النظر والتحرر من ضيق المصطلحات وصرامتها إلى أفق أوسع يتعامل مع الوسائط المتعددة باعتبارها مستويات من أداء المعنى ومعنى المعنى كما في علم البيان، وكذلك باعتبارها تراكيب تقنية يجري عليها ما يجري على التراكيب من تقديم وتأخير وذكر وحذف وإظهار وإضمار، وروابط نصية، تنهض بها الوسائط الرقمية في صناعة المعنى. وتأتي أخيرا البلاغة التشعبية وهي الإضافة الجديدة للنموذج البلاغي من خلال الشبكة المعقدة في روابطها وإمكاناتها حيث يتجاوز النص التشعّبي الرقمي النص البياني القائم على التسلسل الخطي ببناء جديد يعتمد على ما يسمى بتداعي الأفكار، وهي تقنية تشعّبية مصمّمة على العقل الإنساني في تداعي الأفكار، حيث تتجاوز الوسائط وتتداخل بشكل يعتمد على القفز من وسيط إلى آخر، وهي من سمات النص الرقمي المحوسب، وبلاغته من القسم الثالث حيث تبدو الوسائط في صميم بنية النص، ومن خلال ذلك تتحقق له صفة الرقمية بالإجماع، خلافا للقسم الأول الذي يمكن أن يجمعه فضاءمشترك مع النصوص الورقية ذات التقنيات الحديثة، في حين يقف القسم الثاني في منطقة مزدوجة بين الورقي والرقمي فيما يخص الجدل الدائر حول المصطلح. وبصرف النظر عن هذا الجدل فإن ما قدّمه الدكتور جميل عبد المجيد في كتابه «البلاغة الرقمية» من نماذج كلّها تنضوي تحت هذا المصطلح، وكانت معالجته للفصول والمباحث تنطلق من فضاء الحاسوب وتعود إليه، بنظر رحب ومرونة عالية في الربط بين الأفكار، مع تحليل دقيق للنصوص الرقمية في هذا السياق. بقي القول إن ثمة مساحة ما تزال صالحة للارتياد الرقمي من منظور بلاغي يراوح بين الثابت والمتحوّل في بناء هذا العلم ليبقى راسخا في أصوله مزهرا ومزدهرا في فروعه وفصوله. وقد أجاد الدكتور جميل في فتح هذا الباب المشرع على البلاغة الرقمية وعلاقتها بالبرمجيات التطبيقية التي ما تزال تَعِدُ الدرس البلاغي بالمزيد من الأفكار الجديدة والتطبيقات الفريدة في عالمنا الافتراضي الجديد.