فيلم المرهقون (The Burdened..

سينما الحياة دون تنميق.

السينما دائما وإلى الأبد هي أرقى وأصدق شكل لخلق صورة طبق الأصل عن الواقع، وتجميد الزمان والمكان داخل شريط سينمائي يختزل حياة كاملة في ساعة أو تزيد. وقد يكون قدر هذه الحياة أن تكون مرهقة حتى النهاية بأسئلتها اللامتناهية، وظروفها القهرية، ولا سبيل للنجاة أحياناً سوى أن نترك كل شيء على حاله ونمضي مهما كنا مرهقين، هذا ما يقوله صناع الفيلم اليمني (المرهقون) والذي حاول العاملون عليه سرد الواقع دون تنميق أو زخرفة، في صورة تعبث بالمشاعر وتبعث القلق وتحرك مكامن الإنسانية فينا، لنرى بوضوح كيف يمكن للحرب أن تشوه وجوه المدن الجميلة، و كيف لها أن تصنع من الإنسان مجرد كائن يحاول البقاء على قيد الحياة لا أكثر! الفيلم يتناول قصة صغيرة لكن القصة تقول كل شيء عن الوجع الإنساني، عن العجز في الوصول لحياة كريمة، عن محاولات التشبث بالأمل بالرغم من انعدام مستوى الرؤية وفقدان البوصلة، وفيلم (المرهقون) كما يوحي عنوانه ليس مجرد حكاية عن أجساد متعبة، بل هو نص بصري يضع الإرهاق كحالة وجودية تتجاوز التعب الجسدي إلى كونها مرآة لزمنٍ مضطرب، ومجتمع عالق بين الرغبة في الحياة والانكسار أمام ثقلها، كقصيدة سينمائية عن العجز الصغير واليومي، تلك اللحظات التي يبدو فيها الإنسان محاصراً بآليات رتيبة، كالعمل بلا جدوى، والعلاقات المفككة وساعات فارغة تتساقط مثل الرمل من يدٍ لا تقبض على شيء، الفيلم يستدعي قصة الإنسان المرهق لأنه عالق بين حريةٍ لا يعرف كيف يمارسها، وواقعٍ يضغط عليه بضروراته، التعب هنا ليس عارضاً بل هو بنية للوجود، الإرهاق هو الوجه الآخر للعبث، والمرهقون ليسوا مجرد شخصيات بل رموز لزمنٍ فقد المعنى. يتناول الفيلم حكاية زوجين يمنيين في مدينة عدن، في ظل ظروف الحرب والعوز والحاجة، ومحاولات توفير حياة كريمة لأطفالهم الثلاثة، حياة يصبح بفضلها أطفالهم أفضل حالا من آبائهم، لكن الزوجة تكتشف أنها حامل بالطفل الرابع، بينما تستعد العائلة للانتقال إلى منزل أقل تكلفه، ليبدأ الزوجان رحلة البحث عن طريقة للتخلص من الطفل القادم، لأن الحياة أضيق من أن تحتمل وجود طفل آخر في العائلة.. ومع البحث تبدأ التساؤلات حول شرعية هذا الفعل من عدمه، وحول فكرة “الطفل بيجي برزقه معه” السائدة في المجتمعات المرهقة والمهلهلة، والحقيقة أنه لا طفل يأتي برزقه، فالأطفال بحاجة لبيئة آمنة قبل جلبهم إلى هذ العالم، والإنجاب ليس مجرد وظيفة بيولوجية، إنما هي حياة كاملة ومسؤولية مكلفة، كما يقول شوبنهاور:” إن الإنسان قد يقضي ثمانين سنة يدفع ثمن لحظة من المتعة قضاها والداه”. يكمن جمال الفيلم في المشاهد الطويلة دون قطع سريع، واللقطات التي تعتمد على التباين بين الضوء والظل، الوجوه الساكنة التي تخفي وراءها صخباً داخلياً، الصوت أحياناً ينخفض إلى حد الغياب ليجبر المشاهد على الإصغاء إلى فراغٍ داخلي يشبه فراغ الشخصيات نفسه! استطاع المخرج اليمني “عمرو جمال” أن يصنع من هذا الخراب فيلماً سينمائياً يرصد المعاناة اليمنية ليراها العالم من خلال تفاصيل حياة عائلة صغيرة يحاول الزوجين فيها التخلص من الجنين القادم، كان القرار مؤلماً ومشتركاً بين الزوجين، لكن تنفيذ قرار كهذا في مجتمع مسلم ومتدين كان صعباً للغاية، إجهاض إسراء(الزوجة) كان يمثل إجهاض كل الآمال والأحلام، كيف يمكن للإنسان أن يحب ويتزوج وينجب ويعيش كإنسان طبيعي في ظروف غير طبيعية؟؟ هي مفرمة يومية للحب والأحلام. فالفيلم يتناول واقعًا إنسانيًا مؤلمًا، يجمع بين الأزمة الاقتصادية، وانهيار البنية الاجتماعية، والصراع بين القيم الدينية والمجتمعية من جهة، والضرورات المعيشية من جهة أخرى، والإجهاض هنا ليس مجرد فعل يتعرض للتقييم الأخلاقي فحسب، بل يُستخدم كرمز للتخلي عن الأحلام، للمفارقة بين ما يُنتظر وما يُحتمل أن يُفقد. يُبرز الفيلم كيف أن الحروب والضغوط الاقتصادية تُجبر الأسرة على اتخاذ خيارات تكاد تكون قسرية، وأن الأزمات لا تقتصر على الماديات بل تمتد لتشمل النفس والقيم والتماسك الاجتماعي. منح المخرج “عمرو جمال” الفرصة للمشاهد للتأمل في الواقع المُعاش، بالتصوير في أماكنها الحقيقية في عدن مما ُأضفى واقعية على الفيلم، ومنح المشاهد شعورًا بأن هذا المشهد ممكن أن يكون واقعًا مرئيًا فعلاً، ومن الواضح من المصادر أن هناك استخدامًا للإضاءة الطبيعية حيثما أمكن، للتأكيد على التشبع الواقعي، وأحيانًا الظلال والظروف المناخية بوصفها عاملًا إضافيًا يضيف إلى إحساس الضيق والضغط داخل المنزل أو الشارع مما خلق لغة سينمائية شديدة العذوبة. آداء الممثلين مُقتصد ومناسب للحالة بلا مبالغة بل تمثيل يعكس الصمت والتوتر الداخلي، في النظرات والهمس، وهذا الأسلوب يُكمل الأسلوب البصري الهادئ ويجعل المشاهد يغوص في النفس الإنسانية أكثر من الأحداث الخارجية فقط، والإجهاض جاء كرَّمز للتخلي عن الأمل، وعن الرغبة في المستقبل، عن الحلم بطفل يُكمل الأسرة، عن استمرار الحياة في وسط الخراب، عدن بين الجمال الطبيعي والتراث وبين الدمار و الفقر والفوضى، عدن هنا شخصية في الفيلم وليست مجرد خلفية. الفيلم يدعو للتعاطف والفهم قبل إطلاق الحكم إنه ليس فيلمًا عمن هو المخطئ ومن هو الصائب بطريقة مباشرة؟ بل فيلم يفتح باب الأسئلة كيف يؤثر الفقر والجوع والحرمان على القرارات؟ كيف تنفصل القيم الاجتماعية عن الواقع الحي؟ وكيف يمكن أن يكون الأمل رغم الإرهاق؟ كما أن نجاحه الدولي يدلّ على أن القصة المحلية، إن صُوِّرت بصدق وبأدب، تمتلك القدرة على أن تتواصل مع جمهور واسع، الفيلم يستند إلى قصة تُحتمل أن تكون حقيقية، ويصور الواقع من الداخل، أما العناصر الرمزية كالإجهاض، والصراع بين القيم والواقع فقد وظفت بطريقة ذكية دون أن تغرق الفيلم في فلسفة مجردة، كما أن التجربة البصرية للمكان وتصوير عدن بمكانها الطبيعي يُعطي الفيلم بُعدًا ثقافيًا وتاريخيًا، ويوثّق لحالة مجتمع غير ممثل بكثرة في السينما العالمية. قد يكون من الصعب أن ينغمس المشاهد في داخل الشخصيات بدرجة كاملة؛ بعض الشخصيات تحتاج إلى لحظات داخلية أقوى أو مونولوجات أكثر وضوحًا لكشف دواخلهم، المحدودية الزمنية وربما كان ذلك بسبب مدة الفيلم، يعكس الفيلم واقع حرب مستمرة تؤثر ليس فقط بمعاركها العسكرية، بل بانهيار الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء ورواتب الموظفين وبالتالي الاستقرار الأسري، يُشكّل الفيلم صوتًا للأسر المُرهقة فعلاً، التي تعبت من الضغوط اليومية، من ارتفاع الأسعار، من فقدان الأمل، كما أن الفيلم يؤرشف لحالة عدن عام 2019 كمدينة تحاول البقاء بالرغم من التمزقات والمآسي والانقسامات الداخلية والمشاكل المتراكمة، فيلم “المرهقون” يُعدّ خطوة كبيرة للسينما اليمنية، ليس فقط لأنه يمتلك جودة فنية وقدرة على المنافسة الدولية، بل لأنه يفتح نوافذ على واقع إنساني مؤلم ومهم، بقالب سينمائي متوازن بين الواقع والرمزية، دون الوقوع في الفخاخ السخيفة للابتذال أو الدعايات السياسية المباشرة. شكراً لصناع العمل على هذا الفيلم الذي حقق الغاية الأساسية من صناعة الأفلام، ولا أعرف كيف كانت ظروف صناعة فيلمه هذا، إلا أنه خرج بتحفة فنية جميلة بالرغم من كل الظروف، فإذا كنت من محبي الأفلام التي تترك أثرًا وتطرح أسئلة بعد انتهاء العرض، فهذا فيلم يستحق المشاهدة، حصد الفيلم على جائزة منظمة العفو الدولية في مهرجان برلين السينمائي الدولي وجوائز في مهرجانات متعددة كشيكاغو، فالنسيا، تايبيه، دربان وغيرها. الفيلم من إخراج وسيناريو “عمرو جمال” وبطولة كل من “خالد حمدان”، “عبير محمد”، “سماح العمراني”، “إسلام سليم” وغيرهم.