أدب الصحراء: زئير القطار وارتشاف القهوة.

للمرء أن يستعير عنوان “أدب الصحراء” Desert Litrature من رحّالة بريطانية هي “لويزا جب” Louisa Jebb، زارت تركيا والعراق، وكتبت ضمن أدب الرحلات كتاباً مُهمّاً، ولكن منسيّاً، تحت عنوان “عبر الصحراء إلى بغداد” By Desert Ways To Baghdad، في عام 1908. وهذا المصطلح “أدب الصحراء” في رأي الكاتبة، يشمل كلّ ما كُتب عن الشرق من قِبَل الرحّالة الغربيين: المُستشرقين الأكاديميين، والمُبشّرين، والعُملاء الذين وُظّفوا من قِبَل المؤسسات الاستعمارية. كما تُبيّن كلمات الكتاب أن “الصحراء” المقصودة هي كلّ المساحة الخارجة عن حدود أوروبا، إذ تغدو في نظر الكاتبة صحراء، وهذا بحدّ ذاته ينطوي على أن أوروبا فقط تقع خارج نطاق الصحراء، أي أن القارّة العجوز هي حديقة الأرض أو بستانها! وما دام الكتاب يتحدّث عن مسالك الصحراء المؤدّية إلى بغداد، فإن القاريء يتوقّع حدوث الرحلة في صحراء قاحلة، والحقيقة هي أن الرحلة تبدأ من “إسطنبول”، ومن هناك يبدأ السرد الوصفي الإخباري كذلك، والكاتبة تعدّ نفسها في الصحراء منذ اللحظة التي تعبر فيها من الشطر الأوروبي لإسطنبول لتضع أقدامها على الشطر الآسيوي: من هنا تبدأ الصحراء! ورغم وقوع الكاتبة تحت ضغوط التحامل والانحياز، بفعل مخزونٍ استشراقي حاضر في ثقافتها التي جاءت إلى الشرق مُسلّحةً بها عبر استخدام عدد من المصطلحات والتعبيرات التي تنُمّ عن فوقية سلطوية، علقتْ بالعقل الغربي وترسّبت في أعماقه بطريقة يصعب التخلّص أو الشفاء منها، إلا أن الكتاب يسمو في مواقع عدّة فوق محدوديات الاستشراق؛ كما يتجلّى هذا في تطوّر وتغيّر آراء الكاتبة وهي تحاول أن تكون مُخلصة في نقل تفاصيل تطوّراتها الفكرية، ولا تقصد الإساءة إلى الشرق على نحوٍ مُتعمَّد، خاصة مع ما ورد في كتابها من نقدٍ لبعض أوجه الحياة في الغرب، وفي بريطانيا على وجه التخصيص. تُقدّم الكاتبة في الفصل الرابع من الكتاب: “فجر سكّة حديد بغداد” على أن هذا الخطّ الحديدي ثورة في حياة الشرق والشرقيين، ولهذا فإن استخدامها لكلمة “فجر” يغدو بالغ الدلالة، نظراً لانطوائه على أن الشرق كان نائماً في ليلٍ حلك طويل، وأن القطار جاءه بالشمس والحضارة.. والحضارة المقصودة هنا دون شكّ تُقدّمها أيادٍ غربية! إن القاريء يجد الكاتبة واقعة تحت ضغط الرأي الذي يُسلّم بالماكنة حقيقة واقعة، إذ تستخدم “القطار” رمزاً أدبياً للتصنيع، كإعلانٍ لتغيّرٍ هائل وبداية عصر انتقالٍ يكمن على بوّابة الشرق، ويبدو أن سكّة حديد بغداد كانت أبرز حدث صناعي يدخل الشرق آنذاك، ولهذا وجدت الكاتبة فيه كذلك سبباً حاسماً لخلق الوعي الشرقي بالزمن. وإذ تجد الكاتبة أن الإنسان الغربي رهين للوقت وتقسيماته التي تُقرّرها الماكنة، فإنها تحاول عبر فصل “الضيافة العربية” في كتابها أن تنطق بهذا الصمت، وتُزاوج فيه بين سكون الصحراء وسكون الإنسان، يتجلّى هذا في حضورها في ضيافة أحد الشيوخ العرب، وهنا يتحوّل احتساء القهوة إلى طقوس تعكس السكونَين: الزماني المكاني، والإنساني. تقول الكاتبة: “تتوهّج النار الآن لتعكس صورة الرجل مُنحنياً على الرماد المحترق، وكانت الرؤية ممكنة ولكن بصورة شبحٍ أسود، وكان السكون لدقائق قليلة بالغ الهيبة، فتركيز الجميع ينصَبُّ على إناء القهوة، إذ يشعر المرء أن معنى الحياة كلّها: الماضي والحاضر والمستقبل يجري تقطيره في هذا السائل الأسود، ويتواصل ظلام الأرض والسماء مع عتمة القهوة...”. كلّ شيء كان يبدو ساكناً، لا أثر للأحداث اليومية وللمتغيّرات السريعة، لأن هذا السكون الصحراوي يرجع لما لا نهاية من القرون، والكاتبة إزاء هذا الصمت تستذكر في مقارنة بارعة ضوضاء وجنون الحياة المُعاصرة في المُدن الأوروبية. إذ يبرز البون الشاسع بين القهوة العربية، رمزاً، والقهوة التي يبتاعها المرء من أي حانوت في شوارع مدينة أوروبية، ففي مقهى محطّات القطارات المزدحمة، القهوة مُقابل “شِلن” والنادل مستعجل، فالناس المُسرعون ليس لديهم سوى دقائق للانتظار لطلب قهوة فورية. أن هناك تداخلاً من نوعٍ ما، بين المعنى الجغرافي للصحراء وبين المعنى الاصطلاحي العالق بالعقل الغربي، فمن منظور جغرافي تعني الصحراء الجدب والفراغ اللا منتهي، حين يطفو الإنسان الشرقي كائناً بين مُحيطين هائلين؛ هُما الرمال والسماء، لذا تعتقد الكاتبة أن النظام الروحي والديني في الشرق ينطق بحقائق يصعب أن يفهمها الإنسان الغربي، وهو يُلاحق القطارات، حيث تقضمه ماكنة الحياة السريعة في عالم الصناعة.