التعصب.. وهم الأقوياء.

قدم لنا التاريخ تجارب متنوعة، منها ما هو مُشْرِق ومضيء، حين ساد التعايش والوئام بين ثقافات وأديان مختلفة، ومنها ما هو دامس الظلام، حيث طغت لغة الكراهية والعنف، وخلفت وراءها دمارًا مريعًا ومآسٍ لا تُمحى من ذاكرة البشرية. فقد شهدت الإنسانية صراعًا مريرًا بين متلازمتين متناقضتين: فضيلة التسامح المضيئة التي تمثل قمة النضج الحضاري والفكري، ورذيلة التعصب المظلم، الذي يتبنى رفض الآخر، بكراهية عمياء تؤدي إلى أبشع الجرائم بحق الإنسانية. ولقد انشغل الفلاسفة منذ القدم بتحليل تلك النوازع، محاولين فهم دوافعها وتأثيراتها، واضعين الأسس النظرية لبناء مجتمعات تعتمد على العقل وسيلة للحوار، بدلًا من الكراهية والإقصاء. ففي عصر التنوير الأوروبي، برز فلاسفة كبار دافعوا بصرامة شديدة عن التسامح، وشنوا هجومًا لاذعًا على التعصب بجميع أطيافه. يأتي في مقدمتهم الفيلسوف الفرنسي “فولتير 1694 - 1778م” الذي رأى في التعصب “خرافة الأقوياء ودين الضعفاء” واعتبر الكراهية سُمًا زُعافًا يورثه الجاهلون إلى الأغبياء، في حين يرفل أصحاب الحكمة في جنةٍ من الحب والتسامح لا يراها المتعصبون. من جانبه، قدم الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانت 1724 – 1804م” أساسًا فلسفيًا عميقًا للتسامح، حيث اعتبر التعصب شكلًا متطرفًا من اللاعقلانية. ففي نظره “يتنازل المتعصبون عن عقولهم، ويتبعون عواطفهم ومعتقداتهم بشكل أعمى، متجاهلين ضرورة التفكير النقدي والمسؤولية الأخلاقية”. أما في القرن العشرين، فقد حذر الفيلسوف النمساوي “كارل بوبر1902 – 1994م” من أخطار التعصب السياسي والأيديولوجي، وطرح ما أسماه “مفارقة التسامح” حيث يرى “أن المجتمع المتسامح لا يجب أن يتسامح مع الأيديولوجيات المتعصبة التي تسعى إلى تدميره والقضاء على أسس التسامح ذاتها”. كما ربط “جان بول سارتر1905 – 1980م” علاقة التعصب بـ “سوء النية” وخداع الذات. شهدت ساحات الفلسفة الإسلامية نقاشات ثرية حول قضايا التسامح والتعصب. ويَبْرُز في هذا السياق الفيلسوف الأندلسي “ابن رشد 1126 – 1198م” الذي يرى “أن الحكمة ضالة المؤمن، وأن النظر في كتب القدماء وفلسفاتهم واجب شرعي” كما جسَّدَ التسامح في أبهى صوره، فدعا إلى الأخوة بين المسلمين واليونانيين، وبين الأديان والثقافات المختلفة. وكان حريصًا على تأصيل فضيلة التسامح في كتاباته، داعيًا إلى احترام من ينشد الحق، حتى لو أخطأ طريقه. لم تكن أفكار الفلاسفة حول التسامح نظريات مجردة، بل وجدت طريقها إلى التطبيق في تجارب تاريخية ملهمة، أثبتت أن التعايش بين الأعراق والأديان المختلفة ليس مجرد حُلُم طوباوي، بل هو حقيقة ممكنة التحقيق. ولعل من أروع التجارب التاريخية للتسامح، تلك التي شهدتها “الأندلس” في ظل الحكم الإسلامي، حيث شكلت الأندلس نموذجًا فريدًا للتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود، ونتيجة هذا التلاقح الحضاري ازدهرت العلوم والفنون والفلسفة وقد وصل أبناء الأقليات الدينية إلى مناصب عليا في الدولة الإسلامية، وساهموا بفعالية في بناء صرح الحضارة الأندلسية. على الجبهة المقابلة لضفة التسامح المُشَرِّفة، يقف التاريخ شاهدًا حيًا على فصول مأسوية حالكة السواد، ساد فيها التعصب والكراهية، وأسفرت عن كوارث إنسانية مُريعة لا تزال تتناقلها الأجيال حتى يومنا هذا. وتعتبر “محاكم التفتيش الإسبانية” التي استمرت من 1476 – 1834م نموذجًا صارخًا للتعصب الديني، حيث مورست أبشع أنواع التعذيب والقتل ضد المسلمين واليهود بهدف فرض العقيدة الكاثوليكية بالقوة. كما يُعَد النظام النازي في ألمانيا، بقيادة “أدولف هتلر1889 – 1945م” المثال الأكثر تطرفًا للتعصب العرقي، حيث قادت أيديولوجية التفوق الآري إلى المحرقة التي راح ضحيتها ملايين اليهود والأقليات الأخرى. التعصب لا يقتل الأفراد فحسب، بل ينتهك القيم الإنسانية، ويطفئ شعلة التنوع الثقافي، ويُخلِّف كراهية واحترابًا وانقسامًا يمتد أثره عبر الأجيال. في مقال سابق نُشِرَ في “مجلة اليمامة” بتاريخ 18/03/2021م شَبَّهْت العنصرية بمرض السكري، فالعنصرية من الأمراض الاجتماعية المزمنة، التي تتفاقم مع مرور الوقت، حيث يبدأ هذا المرض بخلل في الجهاز الثقافي، ثم يتحول إلى تشويش فكري، ثم يصبح مرضًا نفسيًا، وفي نهاية المطاف يستقر كمرض عقلي مزمن. والإشكالية أن هذا المرض يستوطن الجهاز العصبي للفرد، وترى ذلك جَلِيًا عندما يواجه المتعصب من يخالفه في قناعاته الراسخة في أعماق عقله الباطن، حيث يستشيط غضبًا ويطلق سيلًا عارمًا من التهم الجاهزة والمعلبة، ضد من هم على غير شاكلته. ومن سوء حظ المتعصب أنه لا يشعر بتعصبه، ولا يدرك خطورة مرضه الذي لا تجدي معه العلاجات التقليدية، بل يحتاج إلى “إنسولين القانون” المتمثل بالتشريعات الحازمة، والأنظمة الرادعة التي تجرم التمييز والعنصرية، وقد أحسن المُشَرِّع السعودي – صُنعًا - حين حَرَّمَ في المادة الثانية عشر من “النظام الأساسي للحكم” أي تهديد للوحدة الوطنية، ومَنَعَ كل ما يؤدي للفرقة والفتنة والانقسام. التعصب لا ينشأ من فراغ، بل ينطلق من اتباع أعمى لتقاليد موروثة مصداقًا لقوله تعالى “ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ” الآية 22 – سورة الزخرف. أو يعتمد على تفسير انتقائي للمعتقدات الدينية. حيث يتم تجاهل التعاليم التي تدعو إلى التسامح والرحمة، والقول بأنها منسوخة، والتركيز بدلًا من ذلك على النصوص التي يمكن اعتسافها لتبرير العنف والكراهية. ومن الأمثلة البارزة على التحول من التسامح إلى التعصب: الصهيونية التي خرجت من عباءة اليهودية، وكذلك النازية ومحاكم التفتيش وقد خرجتا من حظيرة المسيحية، وهناك نماذج للتطرف البوذي في سريلانكا وتايلاند وميانمار ضد الأقليات المسلمة. هذا وإن التحول من التسامح إلى التطرف ليس حتميًا، بل هو نتيجة لتفاعل معقد بين عوامل سياسية واجتماعية وأيديولوجية. وإن فهم هذه العوامل هو الخطوة الأولى نحو مواجهة التعصب البغيض، وتعزيز قيم التسامح والتعايش السلمي بين الأديان والثقافات المختلفة. إن التدافع بين التسامح والتعصب هو في جوهره صراع بين قوى البناء وعوامل الهدم، بين فضيلة الحكمة ورذيلة الجهل، بين ملائكية المحبة وشيطانية الكراهية. لقد عَلَََّمَنا التاريخ أن المجتمعات التي اختارت طريق التسامح والانفتاح حققت إنجازات حضارية باهرة، بينما لم تجنِ الشعوب التي سلكت دروب التعصب والانغلاق سوى الخراب والدمار. من سوء حظ الإنسان أنه لا يمتلك – في غالب الأحيان - القدرة عل معرفة حقيقة نفسه هل هو متسامح أم متعصب؟ بل إنه يكتفي بمعايير خاصة صاغها بنفسه، وفَصَّلَها على مساحة قناعاته، وبما يريحه ويطيب خاطره، بل يُقَدِّم نفسه على أنه طاهر مطهر من رجس التعصب، ولو أحس بنوازع تعصبٍ تعتريه في أحيانٍ معينة فإنه يقفز ليروض المبادئ ويلوي أعناق النصوص لكي يبرر تعصبه. ومن خلال التفسير الانتقائي يكتسب المتعصب شرعية دينية في نظر أتباعه. وتلعب وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي دورًا قويًا في تهيئة البيئة المناسبة لنمو التعصب. كما تسهم في نشر خطاب الكراهية وتأجيج الصراعات الطائفية. ومع كل هذا فإنه بإمكان المرء – وببساطة - أن يفحص ثقافته، ليكتشف موقعها على خارطة التسامح والتعصب، وذلك بطرح تساؤلات بسيطة وغير معقدة منها: هل لدي القدرة على مراجعة قناعاتي وفق منهجٍ نقدي؟ هل أنا منفتح على ثقافة الآخر؟ وما هي مشاعري تجاه الأشخاص الذين يختلفون عني دينيًا، وثقافيًا، وعرقيًا وحتى جغرافيًا؟ وهل أغضب أو أمتعض عند سماع من يمتدحهم؟ ومن المثير للحزن والأسى أن كبسولات التعصب يصنعها أصحاب الأجندات الخفية، ويعيد انتاجها أنصاف المثقفين، ويتلقفها الجهلة، ويبتلعها الرعاع. فهل يجرؤ ذوو الأحلام والنهى عل تحطيم هياكل التعصب، والخروج منها إلى فضاء الأخوة الإنسانية ورحابة المحبة والتسامح؟ فما التعصب إلا وهم الأقوياء. مع التأكيد بأن هناك بونًا شاسعًا بين التعصب الأعمى الذي شرحته آنفًا، والانتماء الإيجابي الذي يتمثل في التمسك بالهوية الوطنية الجامعة. وبعد استئذان الشاعر العربي “عبد الله ابن المعتز” أقول إن فكر المتعصب كالمرجل يأكل بعضه إن لم يجد ما يأكله.