السياق الزمني للأولويات من التأسيس إلى الرؤية.

لكل دولة أولوياتها، لكنّ الدول العظيمة هي التي تُجيد قراءة الزمن، و تحويله إلى بوصلة لاختيار ما يجب أن يُقدّم و ما يجب أن يُؤخر. و في الحالة السعودية، لا يمكن فهم ملامح التحول و التقدم من دون استيعاب السياق الزمني الذي حكم ترتيب الأولويات، من عهد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – طيّب الله ثراه – و حتى رؤية 2030 التي يقودها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – باعتبارها المشروع الأكبر لإعادة تعريف الحاضر و المستقبل في آنٍ واحد. أولًا: زمن التأسيس – أولوية الوحدة وبناء الدولة: في عهد الملك عبدالعزيز (1902–1953)، كانت الأولوية المطلقة هي توحيد البلاد تحت راية واحدة، بعد قرون من التنازع و الانقسام. السياق الزمني كان يتسم بالفوضى الإقليمية و سقوط الخلافة العثمانية، و غياب المركزية في الجزيرة العربية. كان المطلوب تأسيس دولة تُقيم العدل و تحفظ الأمن و توحّد القبائل، فكانت أولوية الأمن الداخلي و السيادة فوق كل اعتبار. ثم تبِع ذلك تأسيس الوزارات، و بناء الجهاز الإداري، و توقيع الاتفاقيات الدولية، تمهيداً لاعتراف العالم بالمملكة العربية السعودية عام 1932. ثانيًا: زمن الاكتشافات – أولوية النفط والتنمية الأولية: مع اكتشاف النفط في أواخر الثلاثينيات، خاصة في عهد الملك سعود و الملك فيصل، انتقل السياق الزمني من “التأسيس السياسي” إلى “التحول الاقتصادي”. أصبحت الأولوية توظيف العائدات النفطية في بناء البنية التحتية للدولة: الطرق، المدارس، المستشفيات، الكهرباء، و الموانئ. وفي ظل الحرب الباردة و تنافس الكتل العالمية، تبنّت المملكة سياسة خارجية متزنة، و أصبحت ذات ثقل دبلوماسي، ما جعل الاستقرار الداخلي و التوازن الإقليمي من أولويات المرحلة. ثالثاً: زمن الازدهار السكاني – أولوية الخدمات الاجتماعية: في عهد الملك خالد و الملك فهد، و مع التزايد السكاني السريع وارتفاع أسعار النفط في السبعينيات، برزت الحاجة إلى توسيع الخدمات. فكان السياق الزمني يحكم بأن الإنفاق الاجتماعي هو العنوان الأبرز: بناء جامعات، توفير الوظائف، إنشاء المدن الصناعية، و تعزيز الرعاية الصحية. كما شهد عهد الملك فهد إطلاق النظام الأساسي للحكم عام 1992، و هو تطوّر سياسي و اجتماعي كان استجابة لزمن كانت فيه المنطقة تمر بتحولات فكرية و اجتماعية حادة. رابعا: زمن التحديات الإقليمية – أولوية الأمن و المواقف السياسية: جاءت أحداث 11 سبتمبر، ثم احتلال العراق، فالربيع العربي، كأحداث شكلت سياقات زمنية حساسة في عهد الملوك فهد ثم عبدالله ، فكانت المملكة أمام تحديات أمنية و فكرية، فبرزت أولويات جديدة: •محاربة الإرهاب و التطرف داخلياً و خارجياً. •إصلاح التعليم و تحديث المناهج. •الوساطة السياسية في ملفات المنطقة مثل لبنان، اليمن، فلسطين. الزمن هنا كان زمن “الاحتواء الذكي”، و كانت الأولوية هي الحفاظ على تماسك الدولة و المجتمع أمام التحديات الفكرية و الاضطرابات الإقليمية. خامساً: زمن التحول – أولوية الرؤية و النهضة الشاملة: ثم جاء العهد الذي غيّر معادلة الزمن .. عهد الملك سلمان و ولي عهده الأمير محمد بن سلمان حفظهما الله ، السياق هنا كان مركّباً: انخفاض أسعار النفط، انفجار طموحات الشباب، تصاعد الحروب الإعلامية، و ثورة رقمية تجتاح العالم. فكانت الاستجابة غير تقليدية: رؤية 2030، التي غيّرت ترتيب الأولويات بشكل جذري: •تنويع الاقتصاد و فتح قطاعات جديدة (السياحة، الترفيه، التقنية، الطاقة المتجددة). •تمكين المرأة و الشباب كجزء من قوة العمل والتنمية. •محاربة الفساد و ربط المسؤولية بالمحاسبة. •بناء المشاريع العملاقة (نيوم، ذا لاين، القدية، الرياض الخضراء…). و في هذه المرحلة، أصبح الزمن ذاته أداة في يد الدولة، يُقاس فيه الإنجاز بالأشهر، و يُربط التنفيذ بالمواعيد، لتتحول الأولويات من “رد الفعل” إلى “صناعة الحدث. سادساً: التوقيت كحكمة استراتيجية ما يميز القيادة السعودية الحديثة هو حُسن توقيت اتخاذ القرارات ، فتمكين المرأة لم يكن رضوخاً لضغوط خارجية، بل كان تعبيراً عن فهم أن الزمن تغيّر. و قرارات مثل ضبط أسعار الإيجارات أو إنشاء صندوق الاستثمارات العامة بصيغته الجديدة جاءت في الوقت المناسب لتعزيز جودة الحياة و التموضع الاقتصادي عالمياً. أخيراً: المملكة دولة تستثمر الخبرة و تُحسن توقيت التحول: إنّ السياق الزمني للأولويات في العهد السعودي لم يكن عشوائياً في يوم من الأيام ، بل كان دائمًا نتاج قراءة دقيقة للتحديات و الفرص رغم الأحداث المحلية و العلمية الطارئة ، فالمملكة لم تتغير فقط عبر الزمن، بل غيّرت الزمن نفسه، و فرضت على محيطها الإقليمي و الدولي أن يُعيد ترتيب أوراقه. و بين زمن الوحدة، و زمن النفط، و زمن الانفتاح، و زمن الرؤية؛ كانت السعودية دائماً تقرأ اللحظة، و تُقدّر الأولويات، و تصنع التاريخ في وقته المناسب.