
هذه سيرة غير ذاتية كتبها الكاتب والناقد المصري سمير غريب عن صديقه الكاتب المصري الفرنسي محمود حسين، المؤلف تولى مناصب ثقافية مهمة منها رئاسة دار الكتب والوثائق القومية والأكاديمية المصرية في روما، وكان أول مصري يرأس الاتحاد العربي للوثائق، وقد صدرت له عدة كتب، أما محمود حسين صاحب السيرة فهو اسم رمزي لكاتبين مصريين هاجرا مبكرا إلى فرنسا، وكتبا مقالاتهما وأبحاثهما وكتبهما بالفرنسية، كما وألّفا مجموعة من البرامج الوثائقية بالفرنسية، وكل مؤلفاتهما كانت تحت اسم محمود حسين، لم ينفرد أي منهما باسمه في أي كتابة إلا مرة واحدة، وكانت كل لقاءاتهما مع الصحافة تضمهما سويا، تعرفا على بعضهما في السجون الناصرية بحكم أنهما كانا يساريين، أحدهما “بهجت النادي” كان طالبا في كلية الطب حين هاجر، وعندما طولب في فرنسا بإعادة دراسة كل ما درسه في الطب التحق بالسوربون، أما عادل رفعت فهو إسكندراني ابن أسرة يهودية، رتبت أسرته للهجرة إلى بلجيكا بعد العدوان الثلاثي، لكنه رفض الهجرة ، واعتنق الإسلام و تسمى عادل رفعت، سكنا بيتا واحدا في فرنسا ولم يستقل كل منهما بمسكن إلا بعد الزواج، حصلا على درجة دكتوراة واحدة، بمعنى أن كلا منهما حصل علي الدرجة نفسها في الوقت نفسه عن العمل نفسه! بعد ٨ سنوات من وصولهما إلى باريس، وعندما قدما أول كتاب لهما إلى الناشر، رأى أن اسميهما غير معروفين، فقررا التسمي بإسم واحد هو محمود حسين باعتباره اسما شعبيا في مصر، وظلا يكتبان بهذا الاسم حتى اليوم. في بداية حياتهما عملا مع منظمة فتح الفلسطينية وأصدرا لها مجلتين “ فدائيون” بالفرنسية و” المسيرة “ بالعربية، وبعد صدور كتابهما “عرب وإسرائيليون” استضافهما برنار بيفو مقدم أهم برنامج في التلفزيون الفرنسي، شاهد الحلقة السنغالي أحمد مختار أمبو مدير اليونسكو وأعجب بهما، تعرف عليهما من خلال صديقهما المشترك إبراهيم الصوص مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في باريس، رغب في أن يعمل أحدهما معه كاتبا لخطاباته، لكنهما اجتمعا على أن واحدا منهما لن يعمل بمفرده، فتم توظيفها معا في اليونسكو، أصبح أحدهما رئيسا للتحرير والآخر مديرا للتحرير فى مجلة “رسالة اليونسكو”، هنا كانا يكتبان افتتاحية المجلة كل باسمه، وهذا هو الاستثناء الوحيد، استمرّا حتى تقاعد أحدهما، فعمل متعاونا خارجيا مع المجلة حتى تقاعد زميله بعد ذلك بعامين. بهجت النادي تعرف بالصدفة على الكاتب خالد محمد خالد ، في بدايات الثورة المصرية، قصة تعارفهما طريفة، شعر بهجت وكأن خالدا قد تردد حين عرف أنه شيوعي، ولكنهما التقيا، وكان بهجت سعيدا لأن صاحبه كان يحاوره باحترام وندية رغم فارق العمر والمكانة، ودامت صداقتهما ، كان رأس بهجت محشوا بالأحاديث عن الصراع الطبقي ودوره في حركة التاريخ، بينما كان خالد مؤمنا بدور الفرد في تحقيق مجتمع العدالة والمساواة والديمقراطية، عرض خالد على بهجت أن يرافقه إلى صلاة الجمعة وقد كان، وظل بهجت متأثرا بلقاءاته مع خالد، وكلاهما بدأ كتاباته بشكل تحرري إلا أن كليهما اهتمّ بالدراسات الإسلامية وتعمق فيها فيما بعد. وقد أهدى محمود حسين كتابهما “نزول القرآن” إلى خالد محمد خالد. هيرفي بورج أحد أهم الشخصيات الإعلامية في فرنسا، كان مقربا من الرئيس فرانسوا ميتران ، ومن المؤيدين العرب، رأس القناة الثالثة والرابعة في التلفزيون الفرنسي، أفرد لمحمود حسين فصلا في مذكراته، وصفهما بـ “ التوأم “ ، تحدث عنهما كما لو كان يكتب مذكراتهما وليس مذكراته، ورجا أن يملأ في كتابه الفراغ الذي لم تملأه مذكراتهما بعد، يتحدث بورج عن تأثير التغيرات السياسية والفكرية التى كانت تحدث في مصر على الثنائى محمود حسين، وقال: إنهما غيرا من بعض أفكارهما لكن شعورهما بمصريتهما كان ثابتا. ثم علق على كتابهما الأول “صراع الطبقات في مصر” فقال : إنه نقد يساري للناصرية، وقد نجح هذا الكتاب وتمت ترجمته لعشرات اللغات، و بسببه تعرفا على عدد كبير من أهم المفكرين الفرنسيين، كما تحدث عن لقائهما الأول بالفيلسوف الوجودي جان بول سارتر عام ١٩٧٢، كان الحديث عن الصراع العربي - الصهيوني، وهما يعلمان تماما مدى تعاطف سارتر مع الدولة الصهيونية، سألاه عن حق العرب في استرداد أرضهم المحتلة بالقوة حتى لو أدى ذلك إلى قيام حرب جديدة، فوجئا بإجابة سارتر الواضحة “ نعم، للعرب الحق “ و لكن حرب ١٩٧٣ نشأت بعد عام من اللقاء فنشر سارتر مقالا أدان الهجوم العربي، وأثار ذلك التناقض دهشتهما. لم يكن كل منهما يكتب فصلا مستقلا ثم يجمعا النصوص في كتاب، ولكنهما كانا يتفقان بداية على الموضوع ثم تفاصيل معالجته ومصادره وهكذا حتى العنوان النهائي. نوع من التفكير والعصف الذهني الجماعي، ورغم أن ذلك كان مرهقا لكنهما اعتمدا عليه، وهي طريقة فريدة في الكتابة ربما لم تحدث من قبل. اكتشفا في السجن أنهما كانا يفكران معا، ويكملان بعضهما البعض، يتناقشان حتى يقتنعا، فإن لم يقتنعا تركا الموضوع. في كتابهما الأول اعتقدا أن التاريخ يصنعه الصراع الطبقي، وكان مكان الفرد فيه محدودا، بعد ٥٠ سنة اتضح لهما أن الطبقات موجودة وتلعب دورا كبيرا في التاريخ، ولكن هناك دور للفرد في صناعة التاريخ. ويمثلان لذلك بتحليلهما التالى: عندما جاءت ثورة ١٩٥٢ أكدت على صورة الكرامة الوطنية والإجتماعية إلى حد ما، لكنها ألغت تماما التعبير الحي المباشر للجماهير، أصبح كل شيء يبدأ من السلطة، و لا يبدأ شيئ من الجماهير. عبد الناصر جمع لنفسه بين صورة رئيس الدولة و بين صورة الفرعون، وعندما حدثت هزيمة يونيو و قدم عبد الناصر استقالته، نزلت الجماهير و أعادت صورة الأب و ليس الفرعون ، و عام ٢٠١١ اكتسب الشعب وعيا جديدا بنفسه فانتهت صورة الأب باستقالة حسنى مبارك، ولكن حتى الآن لا توجد صورة محددة لنظام جديد و خطة للمستقبل. ولكن هذا لا يعني أنه لن توجد هذه الصورة في المستقبل القريب. و بعد خمسين عاما كتبا كتاب “ صحوة المحكومين “ و ترجم بعنوان “ ثوار النيل، تاريخ آخر لمصر الحديثة “ وقد نهج نهجا فريدا فقد تعامل مع التاريخ من القاعدة إلى القمة، و بدلا من التركيز على القيادة وإصلاحات الدولة يفضل محمود حسين قصص الطبقات الشعبية و العمال و الفلاحين. و يسلط الضوء على نضالات الناس العاديين ضد القمع والظلم وعدم المساواة وينتقد الكتاب تهميش الطبقات العاملة والفلاحين واختطاف الثورات المصرية من قِبل النخبة العسكرية. اقترح الكاتب الفرنسي جان لاكوتير الذي كان مراسلا صحفيا في القاهرة حوارا بين محمود حسين وفريدلاندر، وهذا الأخير مؤرخ يهودي عاش في فلسطين المحتلة وفي أمريكا، وافق الإثنان بشرط اعتراف فريدلاندر بحقوق الشعب الفلسطيني وموافقته على انسحاب الإسرائيليين من الأراضى المحتلة، وتم الحوار ونُشر في كتاب بعنوان “عرب وإسرائيليين “ وكان الهدف من هذا العمل انشاء جسر بين روايتين لا يمكن التوفيق بينهما في معظم الأحيان، ونال العمل قبولا وترجم إلى الإنجليزية. بعد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ سأل مؤلف هذه السيرة محمود حسين عن تطور رؤيتهما للقضية الفلسطينية فكانت الإجابة: أنهما كانا على وعي بأن إسرائيل أكبر معوقات الوحدة والإصلاح في العالم العربي إضافة إلى أنها قاعدة متقدمة للإمبريالية الغربية، ولكنهما ككثير من المثقفين توهموا في نهاية الثمانينيات إمكانية التوصل إلى اتفاق يحقق حدا معقولا من حقوق الشعب الفلسطيني، وحفزهما على ذلك توجه القيادة الفلسطينية نحو التسوية، في ظل وهم أكبر أن الولايات المتحدة - في ظل سيادتها الدولية الأحادية- ستكون وسيطا موثوقا لتحقيق السلام ورد حقوق الشعب الفلسطيني، ومع تقدم السنوات فقدنا الأمل بالتدريج ولا سيما مع اغتيال ياسر عرفات. أدركنا أن الأوهام جعلتنا لا ننظر بدقة إلى المعسكر الداخلي الفلسطيني، لم نكن نولى اهتماما كبيرا بالمقاومة الإسلامية، و تناسينا أن أي حركة ضد الإحتلال في سياق استعماري هي جزء من المعسكر الوطني ضد المعسكر الاستعماري. فتحت المقاومة الإسلامية في فلسطين طاقة أمل كبيرة بالنسبة للشعب الفلسطيني، وأطلقت طاقات غير مسبوقة للكفاح المسلح، لقد انكشفت أوهام أوسلو للصديق والعدو على نحو واضح، ولا يمكن العودة إلى التسوية، أصبحت المقاومة الإسلامية الجهة الوحيدة القادرة على قيادة وتجسيد الكفاح الفلسطيني، لا شك أنه يوجد تناقض بين القوى العلمانية والقوى الإسلامية، وهو تناقض كان وسيبقى، لكنه في سياق حركة التحرر الوطني الفلسطيني يجب أن يكون تناقضا ثانويا وليس رئيسا ، يحب أن تجتمع كل القوى العلمانية والإسلامية على هدف واحد وهو تحرير فلسطين. بعد كتابهما السابع تحول اهتمام محمود حسين إلى الاسلام، وأصدرا مجموعة كتب أولها كتابهما الأضخم “السيرة.. نبى الإسلام كما يرويه أصحابه وصحابته” كتباه في عشرة أعوام و في جزأين، وصل الكتاب إلى قائمة أكثر الكتب مبيعا في فرنسا، يعيد الكتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء على المصادر الإسلامية الكلاسيكية، تم سردها بطريقة تسمح بفهم أفضل للبعد الإنساني والروحي والقضايا السياسية في الحياة النبوية. ثم تتالت المؤلفات الإسلامية مثل كتاب “التفكر في القرآن” وكتاب “ ما لم يقله القرآن” وهو عما ذكر في كتب التفاسير من أشياء أضيفت من المفسرين ولكنها ليست مذكورة في القرآن. و كتاب “ المسلمون أمام تحدى داعش”، ولهما كتابات لم تنشر بعد مثل كتاب “ اسلاميات” يتحدثان فيه عن سبب تحول هما إلى الكتابة عن الإسلام ، وأنهما اعتنيا بالقاء الضوء على واقع الحضارة الإسلامية وما قدمته إلى أوروبا والعالم، وقد تحولت هذه الكتابات إلى سيناريوهات لحلقات تليفزيونية استغرق العمل عليها ربع قرن. عُرضت في التلفزيون الفرنسى في ١٢ حلقة كل منها في ٢٦ دقيقة، عنوان السلسلة “ عندما تحدث العالم العربية أو العصر الذهبي للإسلام “. وهناك كتاب لم ينشر بعد بعنوان “ وتوفي رسول الله” أخذ شكل رواية عن حياة رسول الله وزوجاته مركزا على علاقته بالسيدة عائشة. لم اطلع على كتبهما في الإسلاميات، وأظن أنها جديرة بالاطلاع والنقاش، ولعلها تثير حوارات مهمة راضية أو ناقدة ولكنها في كل الأحوال ستثري حياتنا الفكرية.