لم يبتسم مديرك اليوم؟ حان وقت الرحيل.

لم يعد التذمّر مجرّد انفعال عابر أو شكوى شخصية تُقال في المجالس، بل أصبح محتوى قائماً بذاته وصناعة لها جمهورها. يكفي أن نستمع لبعض البرامج الإذاعية أو نتابع حلقات على منصات التواصل، لنجد موجات من الخطابات التي ترفع شعارات جذابة وتعيد تدوير صور وردية عن المدير المثالي أو بيئة العمل الحالمة. هذه المنشورات تمنح المتلقي عزاءً مؤقتاً وتفتح له باباً للأعذار، لكنها نادراً ما تعلّمه كيف يواجه واقعه أو يطوّر نفسه، وتحرمه رؤية الواقع كما هو: مليئاً بالتحديات، لكنه غني بفرص النمو لمن أراد. الأخطر أن حياة الناس ومستقبلهم تحوّلا إلى سلعة دعائية ومادة للتفاعل. حين تُختزل التجارب المهنية المعقدة في عناوين سطحية مثل: “اترك وظيفتك الآن، الحياة هناك أجمل!» يصبح مصير الإنسان مجرد أداة لجذب المتابعين وزيادة نسب المشاهدة. لكن أين هو ذلك الـ»هناك” الموعود؟ لا أحد يخبرك. هو مكان افتراضي ضبابي: نوم لثماني ساعات، عمل لساعتين، فواتير تدفع نفسها، ومدير دائم الابتسامة يوزع القهوة والحلوى. الحرية المالية قد تكون ممكنة وفق أحكامها، غير أن الحرية من المسؤوليات ليست سوى خرافة. وما يزيد المشهد التباساً أن المجتمع أصبح أكثر استعداداً لقبول الأعذار الجاهزة. يكفي أن يُذكر “المدير الأجنبي” حتى يجد البعض فيه تفسيراً لأي تعثر أو إخفاق. صحيح أن هناك تجارب سلبية واقعية، لكن التعميم يحوّل الفكرة إلى ذريعة تمنع الإنسان من مواجهة أسبابه الحقيقية. ولا يمكن في المقابل إعفاء المؤسسات من نصيبها من المسؤولية. الموظف قد يُلام حين يهرب من تطوير نفسه، لكن المؤسسة التي تكتفي بالشعارات دون تحسين بيئة العمل تساهم في تغذية سوق التذمّر. بيئة العمل الصحية لا تعني المثالية، لكنها تعني عدلاً وشفافية وقدراً معقولاً من التقدير والفرص. حين يشعر الموظف بذلك قد تقل مساحة التذمّر ويزداد الدافع للتطوير. النجاح المهني – سواء في وظيفتك الحالية أو في مشروعك الخاص – لا يتحقق بالقفز المتهور إلى المجهول، ولا بالتذرع الدائم بالظروف. إنه مسار طويل يحتاج إلى تخطيط واعٍ، ومهارات متراكمة، وصبر على العثرات. من يظن أن الاستقالة بحد ذاتها ستفتح له أبواب الحرية والسعادة، سيجد غالباً أن مشاكله تلاحقه أينما ذهب. في المقابل، من يستثمر في بيئته الحالية، يتعلم، يحسّن أداءه، ويوسّع مهاراته، قد يكتشف أن ما كان يراه “قفصاً” هو في الحقيقة “مدرسة” أعدّته لعبور أكبر نحو فرص جديدة. وحتى لو كانت بيئة العمل فعلاً محبطة ولا يتجاوز الأمر شعوراً نفسياً، فذلك بدوره تجربة تعليمية تضاف إلى خبرة الحياة. ولا يمكن هنا إغفال دور المؤثرين في تكريس هذا المشهد. التحفيز جميل، لكن حين يتحول إلى تحريض بلا وعي يصبح عبئاً. الكلمات الثقيلة مثل “استقل”، “غادر”، “غيّر حياتك فوراً”، ليست شعارات بريئة، بل رسائل قد تهز استقرار أسر وتغيّر مصائر أفراد. وفي عالم الأعمال، عندما لا تجد لدى المسوّق منتجاً واضحاً فغالباً أنت المنتج. فالتحفيز مسؤولية قبل أن يكون أداة للتأثير، وحياة الناس أثمن من أن تتحوّل إلى سلعة. لم يبتسم مديرك اليوم؟ لا بأس. فكر للحظة: لو كان شخص آخر يهمك لم يبتسم لك، هل كنت ستتخذ قراراً مصيرياً بقطع علاقتك به؟ أم كنت ستتفهّم، تحاول الإصلاح، وتواصل حياتك؟ الأمر في النهاية ليس عن ابتسامة مديرك، بل عن قدرتك أنت على مواجهة واقعك بما فيه من تحديات وفرص. *مستشار موارد بشرية – مدير تنفيذي