معالي الأستاذ إياد أمين مدني عن كتاب « هكذا قرأت عبد الجبار الرفاعي » لرجاء بوعلي ..
عمل جاد يحمل روح التساؤل ويحفز على التأمل والتدبر .

تقول كاتبتنا أن قصتها مع د. عبد الجبار الرفاعي، كمشروع فكري وإنساني وأخلاقي، بدأت كما يلتقي الناس في ميادين الحياة الواقعية، يلتقي القراء والكتاب في ميادين الفكر والمعرفة والآداب على أرفف المكتبات، فالكاتب “ كائن يخترق الجغرافيات، يقارب الثقافات، ينفذ في الأدمغة نفاذ الأكسجين، ويجري في الوعي مجرى الماء”. ويلاحظ قارئ أعمال رجاء البوعلي، توقًا للبحث عما يجمع ويربط ويتجاوز اختلاف الثقافات والنمط المجتمعي؛ وكأنها وجدت في قراءتها لبعض أطروحات المفكر العربي العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي ما يخاطب ذلك التوق، ويصبه في سياق، ويجعل له إطارًا ومعنى. ففي ثنايا هذه القراءة، تبسط لنا رجاء البوعلي كيف ركّبَت فهمها لأفكار عبد الجبار الرفاعي، وكيف وجدتها تدعو إلى أنه في ظل تطور البشرية، تتنامى حاجة الإنسان لدين قادر على المواكبة والصمود أمام تحديات ومستجدات العصور والأزمنة، وإلا “ ما جدوى دين متجمد أو واقف في زمن صدوره القديم!” والرفاعي يعرف الدين في هذا السياق، كـ “حياة في أفق المعنى” ويفصح بأن دعوته، إنما هي دعوة “ إلى إنتاج المعاني الروحية والأخلاقية والجمالية لإثراء حياة الإنسان كمركز أساسي تدور حوله الحياة على الأرض، وخليفة الله الذي هو مركز الوجود”. وبأن الإنسان “مرتبط بمشتركات خلاقة بمعانيها مثل: الإيمان، الحب، الحرية، الرحمة، وان تلك المعاني مجتمعة تحقق المعنى الوجودي للإنسان، لتثري مدته الزمنية في عالمه الحسي”. وأن بناء الإنسان يبدأ ببناء الذات الباطنية أولًا، باعتبارها “ الأنا الخاصة “ و “ الذات الفردية “ و “ الكينونة الشخصية “، التي هي “ قوام الحياة الباطنية للكائن البشري لتحرير الذات الفردية من الذات الجمعية، والفكر الفردي من الفكر الجمعي، حيث يبحث الإنسان عن ذاته في ذاته”. غير أن ما قد يحدث هو “ أن الإنسان قد يُصدم بأنه ليس إلا انعكاسًا للذات الجمعية أو العقل الجمعي، حيث تتكون الذات بتراكم طبقات فكرية إنسانية مجتمعية مُشَكِلَة تحد من استقلاليتها كذات فردية قادرة على النمو الحر خارج إطار محدد لها سلفًا؛ فيظل الأفراد يتناسخون فكريًا عن نموذج واحد. ونتيجة للتنشئة المعارضة لكل ما هو جديد عن عرفها الثقافي وفكرها، يظل الإنسان متذبذباً مرة نحو تساؤلات العقل والمنطق والفضول، وأخرى نحو عاطفة الدم والطاعة البارة بإرغام قسري أسري أو مجتمعي يحد من استقلاليته الفكرية، وتهدد فردانيته الأخلاقية وحريته”. ولكن التحفظ الأكبر على ما يتداعى من نظام “النمذجة هو تراكم المعتقدات والأفكار والمفاهيم والممارسات دون إعادة النظر والتفكر في مدى مناسبتها للحياة المعاصرة؛ وإغفال الاهتمام بقدرات التفكير الحر الذي تنطلق منه الأشياء؛ وبذلك يتوهم الفرد المتمادي في الجماعة أنه خارج المحاسبة على الفعل والقرار الذي يتخذه تحت تأثير الآخر فردًا كان أو جماعة.” فما هي حدود حاجة الإنسان للحرية؟ الحرية في سياقها العام تأتي وفق أولويات الإنسان. وهذا يلتقي مع قول الرفاعي “ الحرية لا تتحقق بعيدًا عن مسؤولية الفرد تجاه ذاته، فكيف لذات أن تتحقق دون بلوغ حريتها أولًا! ولحظة تنتفي الحّرية تنتفي الذات؛ فخيارات الإكراه والتقييد الإجباري لا تصنع ذاتاً قوية مسؤولة، كما ان الحرية تكشف عن الذات المختبئة خلف الأقنعة؛ فالنهوض، لا يتأتى إلا من يقظة الفرد أي يقظة الذات، لأن هذه اليقظة تُشكل تحديًا في وجه السبات الجمعي، فيسعى للخروج عن نسق الجماعة وأنماطها المألوفة.” وبالمجمل، فإنه بالرغم من أن “ الإنسان في بدايته يكون مرآة شفيفة لحاضنه الأول، وعيّنة لمجتمعه الأصلي، ورأس خيط موصل لبقعته الثقافية الأولية، إلا أن كل ذلك لا يعني الانسجام في البيئة والتماهي في حواضنها الفكرية”، فالحرية ليست أمراً ناجزاً قبل أن نشرع باستعمالها، وجود الحرية يعني ممارستها، والحرية لا تتحقق بعيداً عن مسؤولية الفرد تجاه ذاته.” والإنسان الذي يعنيه الرفاعي “ هو مجموع معانيه “ ويعرفه كـ “ كائن عاقل، عاطفي، أخلاقي، ديني، جمالي، اجتماعي، تاريخي، متفرد، يتميز عن غيره من الكائنات في الأرض بالعقل، واللغة، والعواطف، والمخيلة، وتذوق الفن والاستمتاع بالجمال، ووعي الموت، والشعور بالزمان، والحاجة إلى الأخلاق والدين وإنتاج الميثولوجيا، والرموز”، غير أن الكمال ليس من ماهية الإنسان، بل من ماهية المطلق، أما النقص فهو من ماهية الإنسان. والرفاعي “ لا يرفع الإنسان لدرجة الكمال، فلا نقص ولا خطيئة، ولا يحطه لدرجة الإسفاف والابتذال والاستعباد، لأنه يعتقد بكينونته الفريدة والناقصة في الوقت نفسه، والمتعطشة دائماً إلى وجود غني يروي ظمأها المزمن ويثري وجودها “، وبهذا يأخذنا تأمل الرفاعي لرؤية إنسانية لعلاقة الإنسان بالله وبالوجود من حوله. وترى رجاء البوعلي أن المتتبع لقاموس لغة الرفاعي، ومنهجه الفكري “يدرك أنه يقدم مفهومه بأن الحاجة إلى الإيمان متسامية في الوجود البشري منذ نشوئه وحتى لحظة موته، كحاجة أنطولوجية تجذب النقص نحو الكمال.” ليس هذا فقط، بل يذهب لما هو أشمل وأكثر رحابة، مُعتبرًا بأن “لكل إنسان لغته وطريقته وأسلوبه في تجسير هذه العلاقة بالحق، فالحاجة الوجودية تتطلب تفاوتًا وتنوعًا يتناسب مع التنوع البشري الهائل، ويتجانس مع المستويات اللا نهائية للإيمان.” بهذه القراءة الجديرة بالاحتفاء، تقدم لنا رجاء البوعلي رحلة يِقَظة إلى شيء من أطروحات ورؤى فكر عبد الجبار الرفاعي، تخرج بها من سحر وادي عبقر الذي يكاد أن يستحوذ مع الإبداع الروائي والقصصي على ساحات الحراك الثقافي؛ لتقدم لنا عملًا جادًا يحمل روح التساؤل، ويحفز على التأمل والتدبر والنظر في بعض من المسلمات. إلا أن رجاء البوعلي اختارت طريقًا ينتظر منها المزيد. ولعلها بهذه القراءة، قد وضعت قدمها على مسار قراءات أخرى لأعمال عبد الجبار الرفاعي تجوس فيها مكونات وآفاق فكره، وهي إن فعلت عساها تعرج على فهم ما يقصده الرفاعي من أن للدين مجاله الخاص، وتشّديده على ضرورة ألا يتخطى هذه الحدود. وعما إذا كان الرفاعي يعني الدين بالمعنى المطلق، والتراث بمعنى التراث الإسلامي، ولماذا القطع بأن دراسة التراث ضرب من ضروب الاجترار، وأين تلتقي رؤيته مع “الوجودية “ التي لم تر للإنسان من مصير سوى أن ينظر إلى داخله ويستنهض ذاته، لكنها سرعان ما تراجعت أمام مشروع الليبرالية الجمعي طارحة في حطامها تساؤلًا أساسيًا حول إمكانية أن تصبح الذات المنفردة جزءاً من ذات جمعية تقدمية منفتحة. وكذلك، مفاهيمه حول الوسطية، والدولة الحديثة، وصراع الهوية بين التراث وتحولات العصر الذي تعيشه،؛ وقناعته بأن المناهج الحديثة لا تحمل معها فكرها المجتمعي الخاص. وسواء اصطحبتنا رجاء البوعلي في قراءات أخرى لأعمال عبد الجبار الرفاعي أم لم تفعل، تظل قراءتها التي بين أيدينا عملًا يضيف اسمها إلى أسماء جيل آخذ في وضع بصمته على مشهدنا الثقافي.