وطن المروءة وقصة «هذا رأسه وكلوه».!

في كل عام يطل علينا اليوم الوطني مجدداً معاني الانتماء لوطن قام على العدل والرحمة، وطن لا يضيع فيه الحق، لأن العدالة فيه قاعدة راسخة والشهامة سجية متأصلة. إن ما ننعم به اليوم من خير وأمن ليس وليد المصادفة، بل امتداد لقيم عريقة توارثها الأجداد وحافظ عليها الأبناء، قيم تجعل مواقف الرجال هي المعيار الحقيقي للشرف، لا مجرد روابط الدم. هناك حكايات تروى في المجالس العربية التي تعبق برائحة القهوة وهدير النار، تكشف أن المروءة لا تقاس بقرابة الدم بل بمواقف تختبر فيها معادن النفوس ساعة الضيق؛ فليس النسب وحده ما يصنع الشهامة، بل الموقف حين يحاصر الإنسان بخياراته ويدعى إلى الامتحان الحقيقي أمام نفسه والناس، ولذلك يحكى أنه قبل أربعين عاماً كان هناك رجل أثقله الدين حتى ضاق صدره، فلجأ إلى ابني عمه يلتمس شفاعتهما. أخذاه إلى صاحب الحق ليلتمسا له مهلة للسداد، لكن الدائن، وقد رأى في أعينهم الحرج، قال بنبرة واثقة: “أمامكم حلان لا ثالث لهما: السداد الآن أو كفالة غرامية من أحدكما”. وحين لمس ترددهما وضع أمامهم حلاً ثالثاً يفيض بالمروءة قائلاً: “تقديراً لحضوركم وشفاعتكم، نتقاسم الدين، وسأدفع ضعف ما يدفعه أحدكما لننهي الأمر في هذا المجلس”. ولكن العزائم خارت، وتلكأت الأيادي، حتى إذا أعيتهم الحيلة قاما وأشارا إلى رأس ابن عمهما قائلين بصوت واحد: “هذا رأسه … وكلوه”. عندها تكلم أحد الحاضرين من قبيلة أخرى قائلاً: “كنت ساكتاً لأعطيكم المجال، لكن ما دمتم قد خذلتم ابن عمكم، فأنا أتكفل بدينه كله وأكون كفيله”. في تلك اللحظة انكشف جوهر القلوب، فالمروءة لم تكتبها صلة دم، بل سطرها موقف رجل غريب أبى أن يرى المدين ينهار أمام أعين أقرب الناس إليه. وليس هذا الموقف استثناء في تاريخ العرب، فالسير تزخر بوقائع تشبهه، كحاتم الطائي الذي ذبح فرسه الوحيدة لضيفه رغم فقره، فغدا مضرب المثل في الكرم والإيثار. وفي بطون الكتب روايات عن قبائل تكفلت بديون غرباء لم يعرفوا أسماءهم، وعن رجال وقفوا في وجه الجوع ليحفظوا كرامة محتاج. هذه الحكايات، وإن فصلتها القرون، تلتقي عند معنى واحد: أن الشهامة لا تصنع في شجرة النسب، بل تكتب في الضمير ساعة الفعل، وأن المجتمعات إنما تحفظ توازنها حين يهب أبناؤها لنصرة المديون وإكرام المحتاج بلا حساب للدم أو العشيرة. واليوم، ونحن نعيش أجواء اليوم الوطني وما بعده، نرى تلك القيم نفسها ماثلة في مبادرات تفريج الكربات وسداد الديون وتقديم المعونات داخليا وخارجيا التي يقودها قادة الوطن حفظهم الله ومن ثم أبناء الوطن من شتى مناطقه. فالمروءة التي ميزت الأجداد ما زالت تنبض في قلوب الأبناء، والعدل الذي تأسست عليه هذه البلاد ما زال يضمن أن الحق لا يضيع بين أفرادها. والمقيمين فيها وهكذا يكتمل المعنى: وطن يجمع بين عدالة الحاضر ونبل الماضي، لتبقى الشهامة السعودية سطراً متصلاً في كتاب المروءة الإنسانية.