زارت قصر « المؤسس» الملك عبد العزيز عام 1939 م..

كاثرين هامرزلي .. أول أمريكية تدخل الرياض.

في شتاء عام 1939م، حين كانت العاصمة الرياض لا تزال تحتمي خلف أسوارها القديمة وتختزن في رمالها أسرار البداوة والمُلك، دوَّن التاريخ لحظة فارقة؛ حيث دخلت فيها امرأة أمريكية قلب الصحراء، لا باعتبارها مجرد زائرة، بل شاهدة على زمن التحوّل الكبير. لم تكن كاثرين هامرزلي مغامِرة عابرة أو مستكشفة متهوّرة، بل كانت أول أمريكية تُمنح شرف الدخول إلى قصر الملك عبدالعزيز، تُجالس مؤسس المملكة، وتُشارك في صيد الصقور وتُراسل إذاعة أمريكية بتفاصيل المشهد الذي لم يكن الغرب قد رآه من قبل. إنها قصة عابرة للقارات، جمعت بين أنوثة المدينة وحدّة الصحراء، وبين عدسة التصوير وعين التاريخ، لتغدو كاثرين أكثر من زائرة... بل جسرًا بين عالمين. سيدة النخبة الأمريكية لم تكن كاثرين ليفينغستون هامرزلي امرأة عادية في زمانها، بل كانت ابنة لطبقة النخبة الأمريكية التي سكنت أفخم القصور، وارتادت أرقى المجتمعات، وتحركت بثقة وسط دوائر المال والنفوذ في نيويورك ونيو بورت وپالم بيتش. وُلِدَت في 8 مايو 1891م لعائلة هامرزلي، وهي واحدة من أبرز العائلات الثرية التي صنعت لها مكانة في عالم المصارف والعقارات والموضة الرفيعة. غير أن حياتها لم تكن مجرّد رفاهية مترفة، إذ فقدت والديها وهي في سنوات الطفولة الأولى، فتولت تربيتها مربية خاصة في ظل غياب العائلة المباشر، ما خلق بداخلها حسًّا بالاستقلال، وفضولًا مبكرًا تجاه العالم الخارجي. امتد هذا الاستقلال إلى اختياراتها الشخصية، فخاضت تجربتي زواج قبل أن ترتبط في عام 1929م برجل الأعمال تشارلز كاربيتير، الذي كان بحكم عمله وتنقلاته على صلة وثيقة بالدوائر الصناعية والتجارية التي راحت ترسم ملامح النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، خصوصًا بعد ظهور النفط. ومن خلال هذا الزواج، لم تنزلق كاثرين إلى دور الزوجة المترفة المنغلقة على حفلات الشاي والمواسم الاجتماعية، بل بدأت تستثمر مكانتها في التفاعل مع القضايا الكبرى التي كانت تحرّك العالم في تلك الحقبة. كانت كاثرين مزيجًا من التمرد الأنثوي والفضول الثقافي، وقد دفعتها هذه الشخصية المتطلعة إلى ما هو أبعد من دوائر المجتمع الأمريكي. وبينما كانت معظم نساء عصرها يكتفين بالسفر إلى أوروبا أو الجزر الهادئة، كانت هي تضع أمام ناظريها هدفًا مختلفًا: دخول منطقة شبه محظورة على الأجانب، بل وعلى النساء بشكل خاص، المملكة العربية السعودية، وتحديدًا قلبها النابض: مدينة الرياض. لم يكن دافعها مجرد السياحة أو الاستعراض، بل إحساس داخلي بأنها على وشك أن تشهد تحوّلًا استثنائيًا في منطقة لم تكن قد انفتحت بعد على عدسات العالم. هذه الرغبة التي بدت مستحيلة في البداية، وجدت طريقها تدريجيًا نحو التحقق، مستندة إلى شبكة علاقاتها الواسعة، وتقاطعات المصالح الأمريكية السعودية في ثلاثينيات القرن العشرين. أما ما جعل من حضور كاثرين هامرزلي لحظة استثنائية في تاريخ المملكة، فهو أنها لم تدخلها كصحفية أو مستشرقة أو مراسلة، بل كضيفة مكرّمة على البلاط الملكي، في وقت كانت فيه الرياض لا تزال مدينة مغلقة على الأجانب. رحلة تاريخية إلى الرياض في يناير من عام 1939م، شقّت كاثرين هامرزلي طريقها إلى قلب نجد، لتسجّل سابقة تاريخية بوصفها أول امرأة أمريكية تطأ أرض الرياض، لم تكن رحلتها مغامرة عابرة، بل تتويجًا لتحولات جيوسياسية عميقة كانت قد بدأت وامتدت آثارها إلى انفتاح محدود ومدروس على بعض الزوار الغربيين، وبخاصة أولئك الذين يحملون خلفهم علاقات وثيقة بالحكومة الأمريكية وشركات النفط الناشئة. وقد جاءت زيارة هامرزلي في إطار وفد أمريكي غير رسمي، ضمّ شخصيات وُصفت حينها بأنها «صديقة للمملكة»، وأُحيطت الزيارة بتنسيق دقيق بين جهات سعودية عليا والسفارة السعودية في واشنطن، التي اشترطت الحصول على إذن مباشر من الملك عبدالعزيز لدخول الرياض. فالمدينة لم تكن آنذاك مفتوحة للأجانب كما هي الحال اليوم، ولم يكن مجرد الوصول إليها أمرًا سهلاً حتى للرجال. أما النساء، فكان يُنظر إلى وجودهن في هذا الفضاء المحافظ كاستثناء نادر يتطلب ترتيبات استثنائية. وقد عبّرت هامرزلي، في مقابلات لاحقة، عن دهشتها من دقّة التنظيم وكرم الضيافة الذي استُقبلت به، مشيرة إلى أنها لم تشعر للحظة بأنها «غريبة» رغم كل الاختلافات الثقافية واللغوية. ومما يُلفت، أنها وصلت إلى الرياض عبر طريق صحراوي طويل، مرورًا بالظهران ثم الإحساء، برفقة شخصيات أمريكية وسعودية، وبتنظيم دقيق من وزارة الخارجية السعودية آنذاك، ما يعكس حساسية المناسبة ورغبة الدولة الناشئة آنذاك في تقديم صورة مدروسة عن نفسها أمام ضيفة جاءت من أكثر بلاد العالم تأثيرًا في ذلك الحين. وكانت الزيارة، بحسب مراقبين في تلك المرحلة، جزءًا من مشهد أكبر، إذ بدأت السعودية تُدرك أهمية العلاقات الدولية، وخصوصًا مع الولايات المتحدة التي كانت عينها على النفط والثقل الجيوسياسي للمنطقة. وهكذا وجدت هامرزلي نفسها في لحظة مفصلية، تتقاطع فيها رغبتها الشخصية في الاكتشاف مع رغبة المملكة في أن تُظهر وجهًا منفتحًا للعالم، دون أن تفرّط في ثوابتها، ولعل المفارقة التاريخية تكمن في أنها قد سارت على أرض لم تكن فيها امرأة أمريكية قد خطت من قبل، وجالست ملكًا كان يحكم بإجماع الصحراء، والتقطت صورًا لم يكن يُسمح بتداولها إلا في أضيق الحدود. مشاهد ولقطات منذ لحظة دخولها أسوار الرياض، انفتحت أمام كاثرين هامرزلي عوالم لم تكن تُدرك أنها لا تزال قائمة في قلب الجزيرة العربية، وقد وجدت نفسها في حضرة طقوس ملكية وأجواء نجدية تقليدية تحكمها الصرامة، وتُظللها رهبة الزمان والمكان. لم تكن زيارتها محصورة في المجاملة أو اللقاءات الرسمية، بل كانت تجربة حية، غنية بالمشاهد، متخمة بالرموز، ومشبعة بالدهشة. وفي قصر الحكم، خُصص لها جناح خاص داخل القصر الملكي وهو ما يُعد في ذلك الزمن خروجًا نادرًا عن البروتوكول المعتاد تجاه الزائرات الأجنبيات. كانت تُرافقها مترجمة ومرافقة نسائية سعودية، تعرّفها بالعادات وتشرح لها طقوس الضيافة. ورغم القيود التي كانت مفروضة على التصوير داخل القصور، فقد سُمح لها بتوثيق بعض المشاهد بكاميرتها الشخصية، بعد موافقة مباشرة من الديوان، مما منح رحلتها بُعدًا أرشيفيًّا لا يُقدّر بثمن. ظهرت في تلك الصور لقطات نادرة للملك عبدالعزيز وهو يجلس مع مرافقيه في المجلس، كما التقطت صورًا لأفراد من الأسرة المالكة وهم يرتدون الزي النجدي التقليدي. واحدة من أكثر اللحظات إثارة، كانت حين دُعيت للمشاركة في رحلة صيد بالصقور، في إحدى مناطق البادية الواقعة غرب الرياض. كانت تلك الرحلة محاطة بحذر كبير، ليس فقط بسبب المسافة، بل لأن وجود امرأة غربية في ميدان صيد تقليدي يُعد من أسرار البادية لم يكن مألوفًا. ومع ذلك، خُصص لها موقع بين الحاضرين، وشهدت انقضاض الصقر على فريسته وسط تهليل البادية، وسجلت اللحظة بكاميرتها التي كانت تحملها دائماً. في ملاحظاتها اللاحقة، وصفت تجربة الصيد بأنها «أقرب إلى الطقوس الروحية منها إلى المغامرة البرية»، مشيرة إلى براعة الصقارين وقدرتهم على التواصل الصامت مع طيورهم، ومعظم هذه اللحظات التي وثّقتها محفوظة في أرشيف جمعية ليتشفيلد التاريخية بولاية كونيتيكت، وبينما كانت عدستها ترصد ما حولها، كانت ذاكرتها تُخزن سردية لا يمكن للورق أن ينقلها بالكامل. مقابلة إذاعية خالدة عقب عودتها إلى الولايات المتحدة، لم تحتفظ هامرزلي بتفاصيل رحلتها لنفسها، بل سارعت إلى مشاركتها مع الجمهور الأمريكي من خلال إحدى أكثر المنصات الإعلامية شهرة آنذاك: برنامج “Lowell Thomas and the Order of Adventurers”، الذي كان يُبث عبر الإذاعة الوطنية الأمريكية ويُعد من أبرز المنابر التي تستضيف شخصيات غير عادية، خاضت تجارب استثنائية في بقاع نائية من العالم. وفي المقابلة التي أُجريت في عام 1939م، قدّمها لويل توماس بوصفها: «المرأة التي عبرت أسوار الصحراء ودخلت مدينة لا تدخلها النساء الغربيات». تحدثت كاثرين بصوت واضح ومتحمّس، عن تفاصيل رحلتها إلى الرياض، وأبرز اللقاءات التي جمعتها بالملك عبدالعزيز وأفراد العائلة المالكة، ووصفت انبهارها بعادات الضيافة، وخصوصية حياة النساء في القصر، ومشهد الصقور وهي تنقضّ على فرائسها في الصحراء. كما استعرضت بالصوت شرحًا لصور التقطتها خلال زيارتها. وقد أبرزت هامرزلي في المقابلة تقديرها العميق للملك عبدالعزيز، ووصفت مجلسه بـ «المزيج العجيب بين الوقار البدوي والحكمة السياسية»، وتحدثت عن دهشتها من الحفاوة التي لاقتها، وعن كرم السعوديين الذين، كما قالت، «لا يستقبلون ضيوفهم فحسب.. بل يتشاركون معهم ما تبقّى من الماء في رحلات الصحراء»، وسرعان ما وجدت هذه الرواية أصداءً في الصحافة الأمريكية والبريطانية، حيث اعتُبرت الزيارة «اختراقًا ناعمًا» في منطقة لا تزال مغلقة، كما اعتُبرت المقابلة الصوتية مادة نادرة في سردية الاستكشاف النسائي، في وقت كانت فيه الصحافة الغربية مشغولة بالرجل المستعمر والمستكشف، أكثر من المرأة الراصدة والمحاورة. وفي العام نفسه، وتحديدًا في خريف 1939م، حازت كاثرين على عضوية الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية، كزميلة فخرية، تقديرًا لما وصفته الجمعية بـ «رحلة فريدة أسهمت في توثيق ثقافي وإنساني لبلد لا يزال مجهولًا للغرب»، هذا التكريم لم يكن مجرد لقب، بل كان تتويجًا رمزيًّا لرحلة جمعت بين الجغرافيا والبصيرة، بين المرأة الغربية والطبيعة الصحراوية، وبين الصوت الأمريكي والصدى القادم من قلب الجزيرة. الأثر والتوثيق لم تكن رحلة كاثرين هامرزلي مجرد مرور نسائي نادر على أرض المملكة، بل تحوّلت إلى مادة أرشيفية ثمينة توثق لحظة استثنائية في تاريخ المملكة، قبيل اشتعال الحرب العالمية الثانية بشهور قليلة. الصور التي التقطتها بعدستها الشخصية لا تزال موجودة في أرشيف جمعية ليتشفيلد التاريخية بولاية كونيتيكت، وتُعتبر اليوم من أندر الوثائق البصرية التي تُظهر ملامح نجد قبل النهضة العمرانية والانفتاح. وقد ظلت المقابلة الإذاعية التي أجرتها مع لويل توماس مادة يُعاد الرجوع إليها في بعض الدراسات التي تناولت بدايات العلاقة السعودية الأمريكية، لا لأنها كشفت جوانب إنسانية وثقافية عن المجتمع السعودي فحسب، بل لأنها قدّمت لأول مرة صوتًا نسائيًا غربيًا يتحدث عن الداخل السعودي دون تحامل استشراقي. لقد اختبرت كاثرين بيئة مغايرة، لكنها روَتها بإعجاب واحترام، ما منح تجربتها وزنًا توثيقيًا وثقافيًا، وما جعلها مصدرًا صادقًا لفهم البنية الاجتماعية والثقافية في المجتمع، هو أن روايتها لم تكن دعائية، بل كانت مفعمة بالتفاصيل الدقيقة والانطباعات الشخصية. إن أبرز ما خلّفته كاثرين من أثر، أنها جسّدت إلهامًا ناعمًا للمرأة المستكشفة، فكانت في زمنها واحدة من قلائل النساء اللواتي لم يكتفين بتأمل العالم من نوافذ القصور، بل خرجن إليه، وتوغّلن في عمقه، وسردن حقيقته بأدواتهن الخاصة: عدسة الكاميرا، مذكّرات الرحلة، والصوت الإذاعي. ومن خلف الأفق، حملت إلى بلادها حكاية ليست عن الصحراء فقط، بل عن الكرامة والضيافة، والمكان الذي لا يُشبه شيئًا سوى ذاته.