حياكة العقال ..

تاج الزيّ العربي.

لا يُعدّ العقال مجرّد شريط يُعصب به الرأس، بل رمزًا للوجاهة، وخيطًا ينسج العلاقة بين الإنسان وأرضه، بين الزيّ والهوية، بين الحرفة والذاكرة. فمنذ قرون، ظلّ العقال العربي بتفاصيله الدقيقة وهيبته الهادئة، يتربّع على رأس الرجل الخليجي كـ “تاج” صامت يُعبّر عن الانتماء والأناقة والاعتداد بالذات. وفي سياق احتفاء المملكة بعام الحرف اليدوية 2025، تعود حرفة حياكة العقال إلى دائرة الضوء، لتكشف عن عمقها الفني ودلالاتها الاجتماعية والثقافية، بوصفها واحدة من أعرق المهن التي صاغت ملامح الزي العربي، وما زالت حتى اليوم تحتفظ بجاذبيتها وهيبتها في مختلف المناسبات والطقوس. تاريخٌ عريق يرتبط العقال في جذوره الأولى بثقافة البدو في الجزيرة العربية، وقد ورد في بعض الروايات الشفهية للبدو، وفي الأنثروبولوجيا الثقافية الحديثة التي تدرس تطور الأدوات التقليدية أن العقال كما نعرفه اليوم كان في الأصل رباطًا يستخدمه البدو لشد أرجل الإبل حتى لا تهرب، وكان يسمى أحيانًا “المعقال” أو “المعقل”، ومن هنا جاءت التسمية، وعندما لا يكون البدو بحاجة لربط الإبل، كانوا يلفّون الحبل على رؤوسهم، ليكون جاهزًا عند الحاجة، ومع مرور الوقت تحوّل من أداة وظيفية إلى جزء من اللباس ثم إلى رمز ثقافي وهوية عربية وخليجية. ورغم كونه شريطًا لتثبيت الغترة فوق الرأس، إلا أنه سرعان ما أصبح جزءًا من الزيّ اليومي ثم اصطبغ بالرمزية. أقدم الأدلة الأثرية، مثل نقوش سومرية بينها تماثيل تُظهر عقد بارز فوق الرأس، والشواهد من بلاد إيلام وسوسة، تدل على أن هذا التقليد يمتد إلى الألفية الثامنة قبل الميلاد، ومع بزوغ فجر الدولة السعودية الأولى، أخذ العقال صبغة اجتماعية جديدة؛ إذ ارتبط بالمكانة الاجتماعية، خاصة بين النخب البدوية والحجازية التي اتخذته تاجًا من نوع خاص، يُضاف إليهم العقال المقصّب الذي زُخرف بخيوط “زري” ذهبية، وتعرّف به طبقة الأمراء والأعيان في الخليج والمملكة، ولا يزال يُطلَق عليه “عقال فيصل” نسبة إلى الملك فيصل (رحمه الله)، وفي المصادر التاريخية، يشير الرحالة والمؤرخ السويسري جان لودفيج بوركهارت (1784–1817)، المعروف بـ “الشيخ إبراهيم بن عبدالله”، إلى أن العقال لم يكن عنصرًا ثانويًا بل وسيلة مهمة لتثبيت الرأس في الصحراء، مترافقًا مع الثوب والغترة في زيّ رحلاته في الجزيرة. ومع توسع دول الخليج وتنامي رمزية الزيّ الوطني كهوية جامعة، أصبح العقال الأسود المزدوج، المصنوع بعناية من صوف الماعز أو وبر الإبل المحلوج يدويًا، رمزًا مرئيًا للوحدة الخليجية وللأناقة الرسمية، وعنصرًا لا يُفصَل عن الغترة في المحافل السياسية والاحتفالات الدينية والمناسبات الوطنية. أدوات ومراحل الصنعة رغم مرور الزمن وتطور وسائل الإنتاج، ما تزال صناعة العقال تحتفظ بجانب كبير من طابعها الحِرفي اليدوي، إذ تعتمد على مجموعة من الأدوات الأساسية التي تشكّل جوهر العملية التصنيعية، تبدأ العملية بالماكينة اليدوية المصممة خصيصًا لحياكة البطانة الداخلية ولفّ الوجه الخارجي، تليها المدقّة الخشبية التي تُستخدم في إحكام استدارة العقال وتحقيق توازنه الدائري، كما يُستخدم المبرم أو المغزل لبرم الخيوط وتحضيرها، وهي أداة تتطلب مهارة عالية كي لا تنقطع الخيوط الدقيقة. أما القالب الخشبي فيُضبط عليه محيط العقال بدقة، ويُراعى فيه حجم الرأس ونوع الاستخدام، وتُستخدم أيضًا فرشاة معدنية صغيرة لتنظيف وجه العقال من أي زوائد أو أتربة، بالإضافة إلى الإبرة والمقص والمشط، التي تستعمل في التشطيب اليدوي. وتختلف أنواع العقال تبعًا لمصدر الخيط ومتانته ولمعانه، وأكثر الخامات رواجًا: الصوف الطبيعي، ووبر الماعز، والحرير الطبيعي، وهناك الزري، وهو خيط ذهبي أو فضي يُضفر مع العقد، ويُفضّل في المناسبات الرسمية أو الوطنية، والقطن والألياف الصناعية مثل النايلون، وتُستخدم للأشكال الخفيفة أو اليومية، وكذلك البلاستيك في النسخ التجارية منخفضة السعر. تمر صناعة العقال بمجموعة من المراحل وهي: لف البطانة؛ حيث تُشكّل الحشوة القطنية البيضاء وتُغلف بالقطن الأسود، ثم يُلفّ عليها الخيط الأسود الطبيعي أو الصناعي على ماكينة الغزل، لتكوين القاعدة الأساسية للعقال، ثم كسرة العقال؛ وتُعد من أهم مراحل الحرفة، حيث يُوصل طرفا العقال ويُعقدان بعناية لإحداث الانثناء أو “الكسرة” الشهيرة التي تمنح العقال شكله المزدوج، ثم تدريس العقدة؛ وهي حياكة نهائيّة للعقدة الأساسية للعقال، والتي تُضفي عليه الثبات وتُعبر عن هوية الصناعة، وتُميّز بين اليدوية والآلية، ويلي ذلك وزن العقال وضبط المقاس؛ وتتم باستخدام القالب والمدقّة، بحيث يُحدد حجم الرأس المطلوب بدقة بالغة، ويتراوح المقاس عادة بين “30” للأطفال وحتى “65” للكبار، بينما يُعد المقاس الشائع بين “45–56” الأكثر طلبًا، ورغم إدخال الماكينات لتسريع الإنتاج، فإن الحرفيين ما زالوا يفضلون الطريقة التقليدية. أنواع وصنّاع يتميّز العقال بتنوّع أنواعه وأشكاله تبعًا للزمن، والمكان، والمقام، ما بين اليومي والبروتوكولي، وما بين الشعبي والملوكي، ويُعدّ العقال الأسود هو الأكثر رواجًا في العصر الحالي، ويمتاز بمرونته في الاستخدام، حيث يُنتج بأقمشة متعدّدة، ويبلغ متوسط سُمكه بين 4.5 و5.6 سم، مع محيط دائري ثابت يقارب 110 سم، ما يمنحه ثباتًا على الرأس وتناسقًا في المظهر، أما العقال الأبيض، فيُعتبر من أقدم أنواع العقل، وكان يُستخدم في فترات سابقة خصوصًا في المناطق الساحلية وبعض البوادي، إلا أنه أصبح نادرًا اليوم، في حين يُعدّ العقال المقصّب أو ما يُعرف بـ “عقال فيصل”، واحدًا من أكثر الأنواع فخامة ورمزية. صُمم بزخارف دقيقة من خيوط الزري الذهبية التي تلتف حول العقد الصغيرة، ويتكوّن من خمسة أضلاع داخلية تعزز استدارته وثباته، واشتهر بلبسه الملك فيصل بن عبدالعزيز، ما أكسبه بُعدًا لا يُضاهى، وكرّسه ضمن ذاكرة المملكة. وقد توزّعت مشاغل صناعة العقال في أنحاء المملكة، إلا أن مدنًا بعينها ظلّت حاضنة لهذه الحرفة التاريخية وراعية لجمالياتها، وعلى رأسها الطائف والأحساء، وكذلك مكة المكرمة وفي المدينة المنورة.