فهد بن زعير:

سيرة رجل في مسيرة دولة.

لا يمكن الفصل عند الحديث عن تاريخ المملكة العربية السعودية المعاصر بين الملك عبد العزيز رحمه الله ورجاله. فأي حديث عن صقر الجزيرة يستدعي الحديث عن رجاله، وعندما يتحدث أحد رجالات الملك عبد العزيز عن نفسه، فلن يستطيع إكمال فكرته دون التوقف عند أبي تركي. لأن عبد العزيز هو من اختار هؤلاء الصفوة ليقيموا هذا الوطن على أرض الجزيرة العربية. وهؤلاء الرجال هم من آمنوا بأهدافه، وأدركوا مراميه، فعملوا بدافع الحب والرغبة المشتركة والهدف الواحد. أمامي كتاب يتحدث عن واحد من رجال الملك عبد العزيز، يثبت لمن يقرؤه أنه يعرض سيرة الملك عبد العزيز، في حين أن الكتاب يتحدث عن هذه الشخصية. إنه فهد بن زعير، الذي كان أحد أهم هؤلاء الرجال، كما سيتبين من استعراضنا للكتاب. نبعت فكرة الكتاب من رغبة أسرة ابن زعير الكريمة في تخليد ذكر جدهم، ليس بصفته الشخصية؛ بل بوصفه واحدا من الذين حملوا على عاتقهم تأسيس هذه المملكة الشامخة، مع النخبة المصطفاة من رجال الملك عبد العزيز. وقد أُسنِدت مهمة تأليف الكتاب للأستاذ حميد الأحمد، فقام بالمهمة خير قيام، بدليل هذا الجهد الواضح في جمع مادته وترتيب أبوابه. وقد استند - نظرا لقلة المصادر التي تحدثت عن المُترجَم له - إلى الاستعانة بالكثير من الوثائق، وإجراء المقابلات مع أربعة من أبنائه، وثلاثة من أحفاده، ممن عاصروا الشيخ فهد بن زعير وشهدوا بعض الأحداث، وكان لهم شأن فيها. وصدر الكتاب عن دار الثلوثية بالرياض - المعروفة باهتمامها بتاريخ المملكة وتراثها - في طبعته الأولى سنة 1447/2025 في حوالي تسعين ومائة صفحة، متضمنا صورا لوثائق ومراسلات. وعلى الرغم من أن الكتاب ليس كبير الحجم؛ إلا أن المؤلف أولاه عنايته الخاصة فألحق به كشافات تسهل الرجوع إلى محتوياته، وهي كشافات للأعلام والبلدان والأماكن والوقائع والأحداث، وفهارس للأبيات الشعرية وللصور والخرائط والأشكال، وجدول للوثائق. ويتضمن ثبتُ المراجع - علاوة على الكتب والبحوث - الصحفَ والمواقع الإلكترونية والمنتديات والروايات الشفهية والسير الذاتية للأبناء. ومن بواكير الاعتناء بالكتاب أن عقدت (مبادرة سمو الحرف) في لقائها الثامن والثمانين، حلقة بعنوان “فهد بن زعير: قصة ولاء وبطولة مع الملك عبد العزيز”، تحدثت فيها أستاذة التاريخ بجامعة الملك سعود؛ الدكتورة فاطمة آل فردان القحطاني، عن الشخصية موضوع الكتاب، كما قدمت عرضا للكتاب نفسه. عُقد اللقاء في يوم الأربعاء العاشر من سبتمبر بمقهى السبعينيات في مجمع الموسى بحي العليا، وحضر اللقاء جمع من المثقفين المهتمين بتاريخ المملكة وملوكها ورجالها، كما حضر اللقاء بعض أفراد أسرة ابن زعير، واختتم اللقاء بمداخلات وحوارات مع المحاضرة الكريمة. بدأ الكتاب بنبذة عن الأوضاع السياسية في شبه الجزيرة العربية، ثم ما بذله الملك عبد العزيز لتوحيد المملكة، ثم انتقل بنا المؤلف للمحة موجزة عن أبناء فهد بن زعير وأحفاده؛ لا سيما من كان له شرف العمل مع الملك عبد العزيز، أو في الحرس الوطني، كابنه الأكبر محمد؛ الراوي الرئيس لسيرة والده، نظرا لقربه منه واطلاعه على تفاصيل حياته، ومعاونته إياه في بعض المهمات، حتى التحق بالحرس الوطني بعد تقاعد والده عام 1376، وتدرج في الوظائف حتى أصبح مستشارا بالمرتبة الخامسة عشرة. ثم انتقل للحديث عن الشيخ فهد بن زعير، فذكر أنه ولد في الرياض سنة 1299هـ تقريبا المصادف لعام 1882. والتحق بالعمل مع الملك عبد العزيز عام 1321، فكانت له إسهامات واضحة في حروب الملك عبد العزيز لحين توحيد المملكة سنة 1351. شارك في معارك التوحيد كلها بدءا من معركة عنيزة سنة 1322/ 1904، ولم يتخلف عن أي منها، سوى معركة السبلة، لأنه كان حينها أميرا للقنفذة، وقد أعفاه الملك عبد العزيز من حضورها لمَّا طلب المشاركة فيها قائلا له: “وجودك على رأس العمل أهم”. وفي هذا دليل على شجاعته وبطولته وتضحيته. وابتداء من عام 1945 التحق بالعمل الإداري، فتولى إمارة عدد من المناطق، بدءا من القنفذة مرتين تخللهما إمارته لجازان، ثم انتقل أميرا لرنية، ثم إلى الأفلاج، وظل أميرا لها حتى تقاعده عام 1376/1956 قبل وفاته ببضع سنوات، إذ توفي عام 1381/1961. وهنا وقفات لا بد منها لفهم شخصية هذا الرجل. أولاها: ماذا يعني أن يختار الملك عبد العزيز رجلا ليلحقه في خدمته منذ شبابه ويظل عاملا وفيا إلى قبيل وفاته؟. يقول المؤلف: “إن الملك عبد العزيز على الرغم من حاجته الماسة إلى رجال مخلصين ليؤسس دولته؛ إلا أن اختياره لكل منهم يتوقف على عدة أمور؛ أهمها الأمانة والثقة والمصداقية فضلا عن الشجاعة والحكمة والنزاهة، فربما قرَّب بعيدا لثقته به وولائه له ... وهو بذلك يبحث عن الخبرة قبل الصداقة والقرابة، وفي الوقت نفسه ربما أبعد المقربين منه ولو كانوا من أقرب الناس إليه، فبناء الدول لا يحتاج إلى العواطف بقدر ما يحتاج إلى الفطنة والحكمة وبعد النظر والتأمل”. والوقفة الثانية ما ذا تعني الإمارة؟ وما ذا يعني منصب الأمير؟. في ذلك الوقت لم يكن التوصيف الوظيفي وتحديد المهمات معروفا كما هو اليوم، فرجل الملك عبد العزيز يعني أن يقوم بكافة الأعمال التي يطلبها منه بحسب قدرته والحاجة إليه، أما الأمير فيعني أن يكون ممثلا للملك نائبا عنه في تلك الناحية. وإذا نظرنا إلى أهمية المناطق التي عُيِّن ابن زعير أميرا لها تبين لنا أنه رجل المهمات الصعبة، فقد عين أميرا للقنفذة مرتين، أولاهما من عام 1345- 1350 الموافق 1926-1931 وكانت ثغرا مهما من موانئ المملكة قبل ضم الحجاز إلى المملكة، لأن جدة لم تكن آمنة في عهد الأشراف، وبالتالي كان الحجاج في حيرة من أمرهم كيف يؤدون الحج، فما كان من الملك عبد العزيز إلا أن أرسل لحاكم عدن من قبل الإنجليز، ولرئيس جمعية الخلافة في بومباي برقيتين يفيدهما فيه باستعداد مينائي القنفذة والليث لاستقبال حجيجهما، وأن المنطقة آمنة ومجهزة بوسائل الراحة والتنقل التي يحتاجها الحجاج. أما جازان التي تولى إمارتها بين سنتي 1350-1352 الموافق 1931-1933 فكانت مطمع القريب والبعيد من الدول، فكان الشريف حسين من جهة، والإمام يحيى من جهة، وبريطانيا وإيطاليا كانتا تباركان خطوات الإدريسي وتدعمانه. ولم تكن رنية التي عين أميرا لها بين عامي 1354-1358 الموافق 1935-1939 أقل شأنا، فكانت إمارة قائمة بذاتها، مرتبطة مباشرة بوزارة الداخلية. وختم ابن زعير حياته الوظيفية بشبه استقرار، إذ عين أميرا للأفلاج بين عامي 1358-1376 الموافق 1939-1957، وكانت الأفلاج من أكثر المناطق اعتراضا على المخترعات الحديثة التي بدأ ابن سعود إدخالها للبلاد، مثل البرق والهاتف، فكانت المنطقة محتاجة لحصافة رجل مثل ابن زعير. رحم الله فهد بن زعير، فقد كان جنديا محاربا في الحرب، وأميرا عادلا في السلم، وكان مفاوضا من الدرجة الأولى، وخصما عنيدا عند اندلاع الفتنة.