الاستلزام الحواري والمغالطات المنطقية.

مما لا شك فيه أن الإنسان بحكم طبيعته التواصليّة يستخدم سيلًا من الحجج في حواراته ونقاشاته اليوميّة على أشكالها المختلفة: الحوار العائلي، حوار الأصدقاء، حوار الزملاء في بيئة العمل وغيرها، وتقع الحمولة الدلاليّة فيها تحت أمرين: معاني صريحة تكشف عنها الألفاظ والتراكيب، وأخرى ضمنيّة تُتولّد وتُستلزم من خلال السياقات أو المقامات التي تنجز فيها، على أن النتيجة المستخلصة من تلك الاستلزامات نتيجة قابلة للمراجعة والدحض وليست من قبيل النتيجة القطعية. كثيرًا ما تلفتني النتائج والأحكام المستنتجة من تلك الحوارات التي تحمل معان ضمنية وخاصة تلك التي يجزم أصحابها بقطعيتها على الرغم من أنها تقوم على استدلالات ظنية لكنها تعامل معاملة الاستدلالات اليقينية، وأتساءل: لماذا الجزم والقطع بتلك الأحكام على الرغم من أنها قابلة للمراجعة والنقض والدحض؟ فكم من النقاشات أفضت إلى خصومة مرجعها الأساس حكم ظنيّ؟ وكم من الشائعات أو الأخبار المضللة انتشرت وأثرت على المجتمع وهي في أساسها تقوم على استدلال ظني يفضي إلى نتيجة قابلة للمراجعة والدحض. ولتوضيح ذلك تأمل معي قولنا: (بعض الطلاب حضروا) هذا القول يستلزم حواريًّا أن ليس كل الطلاب قد حضروا لكنه لا يستلزمه منطقيا، فـ(بعض الطلاب حضروا) قضية صادقة منطقيا حتى لو (كل الطلاب حضروا)، وهنا يكمن الإشكال وهو معاملة ما يستلزم حواريًّا معاملة ما يستلزم منطقيا. وإذا أمعنا النظر تبين أنه لا تعارض بينهما بل هو اختلاف في المستويات؛ إذ يقوم الاستلزام المنطقي على العلاقات الدلالية بين القضايا دون اعتبار للسياق، فالمقدمات فيه تفضي إلى نتائج يقينية، أمّا الاستلزام الحواري فإنه يركز على الاستدلال من منطلق تداوليّ جدليّ، إذ هو استدلال متجدد ومتغيّر حسب ما يستجد عليه من أدلة داخل نطاق عملية الحوار. ولعل المغالطات المنطقية تجد في الخلط بين الاستلزامين بيئة مناسبة لنشوئها كمغالطة المماثلة الضعيفة، والحكم المتسرع، والتعلل بالجهل. والاهتمام بالمنطق غير الصوري والعناية به يسهم إلى حد كبير في التمييز بين الاستدلال الصحيح والاستدلال المغالط. ومن الملاحظ أن المناطقة لم يعنوا بالمنطق غير الصوري عنايتهم بالمنطق الصوري؛ فالفلاسفة من أرسطو إلى فريجه وراسل ركزوا على اليقين العقلي لا على احتمالات الحوار، والمنطق غير الصوري يتغير بتغير اللغة والثقافة والسياق. ويهدف المنطق غير الصوري إلى بناء إطار منطقي لدراسة الحجة والدليل والإثبات والتبرير ودورها في الحوارات التي تقع في سياقات الحياة الواقعية. وقد وردت الإشارة الأولى لمصطلح المنطق غير الصوري في فصل من كتاب المعضلات لجيلبرت رايل بعنوان «المنطق الصوري وغير الصوري» شدد فيه على محدودية نطاق المنطق الصوري في سياق اهتمامه بموضوعات فلسفة اللغة العادية التي راجت في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، وتوالى بعد ذلك الاهتمام بموضوعات المنطق غير الصوري مع تزايد الاهتمام بدراسة الحجج وتقييمها، بدفع من حركة التفكير النقدي في إصلاح التعليم في أوروبا وأمريكا الشمالية، حيث أكد جونسون وبلير امتعاضهما من اعتماد طرائق التدريس في حينه على المنطق الصوري في بناء الحجج وتقييمها كما عبرا عن رغبتهما في تطوير نظرية استدلال متكاملة تتجاوز منطقي القياس والاستقراء. أخيرًا/ إذا كان غياب المنطق غير الصوري يعيق من استدلالاتنا اليومية فكيف يمكننا بناء المعارف في عصر تتقدم فيه التكنولوجيا بشكل سريع ومذهل. من هذا المنطلق، سأتناول في هذه السلسلة الحجج الشائعة في الحوارات اليومية وأسلط الضوء عن النقلات الخاطئة فيها وما تفضي إليه من أحكام، وكيفية التعامل معها؛ ليُمنح القارئ الكريم أدوات التفكير النقدي والحجاج في اللغة الطبيعية، والتمييز بين الحجاج السليم والمغالط.