الاستثمار الثقافي ومستقبل الأجيال السعودية.

خطت الرؤية العظيمة مساراً تاريخياً جديداً في مملكتنا الحبيبة حين أطلقها حبيب الشباب وأملهم سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، واستُثير المجتمع من فرط الحماسة والأمل والترقب والانتظار. شكك من شكك، وصفق من صفق، واستبشر من استبشر. ونحن معنيون هنا بالإمساك بطرف من الرؤية، الطرف المعني بالتعليم والثقافة، هذا الطرف الذي أصابني شخصياً بانتشاء أحسب أن لم يمر عليَّ انتشاء يشبهه. دخلت وزارة الثقافة يومها ووزارة التعليم، في التحدي الجديد الذي أطلق صافرة بدايته صاحب الرؤية الثاقبة، واضعين الأطر لبدء تعبيد الطرق ورصفها للانطلاقة الجادة نحو مساهمتها في بناء الغد لأجيال الوطن. ولأن الرؤى التي توضع في الدول تحتاج إلى حركة المجتمع، استنفر المجتمع العلمي والمجتمع الثقافي والمجتمع الاستثماري والمجتمع بجميع أطيافه للمساهمة الإيجابية الفاعلة لتحقيق الرؤية. إلا أن من عادة المؤسسات أن تكون أبطأ من الأفراد، لأن الانطلاقة فرداً أسرع من الانطلاقة جماعة، وهذه طبيعة التحديات العظيمة. انطلق أهل العلم وأهل الثقافة لملء الإطار الجديد الذي وضعته الوزارتان. فُتحت المقاهي الثقافية، وانتشرت إعلانات المؤتمرات، وسارت البهجة وصعدت النهضة الثقافية العلمية لتحاذي جبل طويق وتستلهم منه الهمة. وأمام هذه الانطلاقات توقفت إحداهن يوماً تتأمل المشهد المأهول بالجهد والعمل والكثير من الأحلام والطموحات، واتسعت تأملاتها فزارت مقهى ثقافياً، وحضرت مؤتمراً علمياً، وندوة ثقافية، ومركزاً، وجمعية، ونادياً، وسارت تستطلع ساحة المستثمرين، ثم التفتت لتنظر إلى المجتمع المتحفز لصنع أمجاده. وقالت يومها: ما أصبر المثقفين! احتملوا سنين من القراءة، وحملوا أكواماً من الكتب، وبنوا في منازلهم مكتبات تنافس مكتبات عريقة كماً وحجماً ووزناً. ما أصبرهم! ثم تبادلوا عناوين الكتب وأسماءها وما قيل فيها، وتذكروا أبياتاً شعرية كثيرة، وأقوالاً واقتباسات عديدة. ما أجمل ذاكرتهم وما أقواها! لكنهم نسوا أو تناسوا أن الثقافة سلم، وأن الدرجة التي تلي القراءة هي التعلم (أي التعلم المنهجي التخصصي الذي يصقل المعرفة). ونسوا أن المثقف – بحجم عصاميته – لا يمكنه أن يأخذ دور معلم! ولنكون أدق: معلم أكاديمي متخصص في مجاله الثقافي الذي يحبه وقضى سنوات يقرأ فيه، وهنا يجب التوقف لإعادة تنظيم الأمور ووضعها في مكانها. لكن لا يعتب أحد على أحد ، لقد تعبوا كثيراً لحمل كتبهم وحفظها. ثم اتجهوا للمستثمرين يطلبونهم دعماً ليصنعوا أندية ومراكز ومعاهد وجمعيات، ثم ملؤوا المقاهي الثقافية والأندية والمراكز والمعاهد والمؤتمرات. والمستثمرون يسألون: ماذا ستقدمون للأجيال؟ شهادة ؟ وبكم؟ وما نوع البرامج التعليمية؟ وكم مددها؟ أربع سنوات؟ سنتان؟ يبدو هذا كثيرًا! فاليوم طويل! هل لديكم عملاء مستعدون؟ (أي طلاب يدفعون للالتحاق)؟ المجتمع لا يملك صبراً على هذا، بضع ساعات كافية وخبرات متناسبة لشهاداتهم! وهنا تولّد الشرخ الأول في مسيرة المستثمرين حيث سقطوا في تسليع الثقافة دون قصد أو سوء نية. ليغضب بعدها المثقفون، وعلى الرغم من غضبهم إلا أنهم لم يكلفوا أنفسهم سؤال المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال: ماذا قدموا ليكتسبوا أموالهم؟ وكيف قاسوا النتائج ؟ وهل هي مرضية متناسبة مع الطموح الوطني العظيم؟ ثم كم حزناً وكم هماً وكم تحديا عليهم مواجهته للصمود أمام مشاريعهم؟ وكم خسارة وقعت عليهم؟ وكم مخاطرة خاضوها؟ فلا يعتب أحد على أحد!. تقدم المجتمع الذي يخطو مهرولاً محاولاً إنجاز أكثر ما يمكن خلال أسرع وقت ممكن وبأقل تكلفة ممكنة، ووقف محتاراً في كيفية انخراطه في هذا السباق الثقافي والنهضة المتطورة والفرص التي تتجدد كل يوم بين يديه! لا يعتب أحد على أحد. ما أصبر المجتمع ، كان أمامه خيارات عديدة: شهادة قصيرة سريعة؟ أم شهادة أطول وأكثر صعوبة ورصانة؟ وبينهما توقفوا ولم يستطيعوا التفريق بين الجمعيات الثقافية، والفلسفية، والجمعيات الربحية وغير الربحية؟ والمراكز والمعاهد ، ألم تكن جميعها تعطي شهادات حضور وبرامج وورش؟ أكانت حقاً شهادات مساهمة في قياس الناتج الوطني الأهم؟ أكان على أفراد المجتمع حضور عرض مسرحي أو موسيقي برفقة صغارهم وأهلهم ليصنعوا لهم ذاكرة جميلة؟ أليس العرض الموسيقي أو المسرحي ثقافة؟ أليس هذا الحضور ثقافي واجتماعي أيضا؟! لكن لا يعتب أحد على أحد. هل تعاتبونهم على محاولتهم الجادة كي يصبحوا مثقفين وحاضرين في الساحة الثقافية؟ لكن المستثمرين في الأخير اختنقوا فاختاروا طلب السوق (أي المجتمع)، فاختنق المثقفون فاختاروا تقليص شهاداتهم. ثم انعطفوا إلى المسارح والعروض لأن هذا ما يريده السوق، وهم يريدون أن تواصل أحلامهم سيرها علها تبلغ أمراً. وعلى الرغم من كل ذلك ما تزال الفرص التصحيحية قائمة، ويمكن إصلاح الغد لجميع أطياف المجتمع وأجيال الوطن القادمة؛ ليصبحوا فاعلين وقادرين في أن يشاركوا في الساحة ليروا يقيناً أنهم قدموا قيمة فعلية للوطن.. مستهدفين التنمية العليمة والثقافية والتطوير أو مستثمرين وطنيين جادين مخلصين للمجتمع والوطن . ولايعتب أحد على أحد .