الساعة الخامسة والعشرون لــــ « قسطنطين جيورجيو » ..

الرواية التي فضحت الحضارة الغربية .

رواية الساعة الخامسة والعشرون، للكاتب الروماني قسطنطين جيورجيو، رواية واقعية تشرح جميع الحروب ومآسيها، وظلم الانسان وجبروته وقدرته اللامتناهية على التلاعب بالقانون، وكأنه يقول بأن القوانين وضعت ليتم خرقها، لا للصالح الإنساني، وإنما للغرب الحداثي المتلاعب بالعقول والثقافات، والموجد معاييره الأخلاقية الخاصة التي يراها المرتكز لما سواه من الأمم. فالتلاعب بالقانون ومهما قيل عن حرمته انطلاقا من فصل السلطات والعدالة المقدسة، لا يعدو أن يظهر في المطامع السياسية والحروب المترتبة عليها، كاشفا زيف الحضارات التي تدعي القيمية الأخلاقية الإنسانية، بجلاء ووضوحٍ رغم إصرارها على أن تكون الحكم والقاضي والجلاد والقديس والفيلسوف والمفكر، المنظِّرين جميعهم لإملاءاتٍ مفروضة على الأمم والثقافات الأخرى، رغم انكشاف زيفها وممارساتها التاريخية، القديم منها والحديث، بإبادتها العرقية والمذهبية ولأسباب جيوسياسية واقتصادية، ارتكبت في سبيل تحقيقها أبشع مظاهر القهر الإنساني، فضلاً عن استمرارها في الحاضر متخذةً من ازدواجية المعايير نهجاً سوغته وقبلت به. سينتاب القارئ ولا بُد، شعور متناقض أثناء قراءة الرواية، لتمكن كاتبها بواقعية مفرطة بعيدة عن الكلاسيكية التقليدية؛ خلق وتكوين عالمها الافتراضي الخاص بجغرافيا متنوعة، وإن كان في حقيقته أكثر واقعية من أشد القصص والحكايات عن الحروب ضراوةً وبؤساً. فالمكان والزمان معلومين، أما ما يربط بينهما كفكرةٍ مركزية، هو اللاّعدالة، التي لا يشفع لها تباين درجات فسادها، لكون المحصلة دوماً وفي نهاية المطاف تصب في خانة الشمولية السياسية والعرقية والمذهبية والمصالح الأيديولوجية والجيوسياسة، حتى لو كان مقترفيها من دُعاة الديموقراطية من جهة، أو من أنظمة الاستبداد تحت شعار الأمة. نتخيل هذا العالم في أذهاننا كقراء أثناء ارتباكنا ومشاعرنا المتناقضة، بسردية محكمة الحبكة، يتخللها الحوارات التي تحمل تارة طابعاً إنسانياً شاعرياً، وآخر مصلحي منفعي، وثالث يحمل رسائل سياسية واضحة ومبطنة، ورابع وجودي عبثي بلسان الشخصيات الرئيسية والهامشية فيها. فيما تظهر الفلسفة التأملية والفكرية لا فقط في التمسك بالمبادئ وتحليل الواقع، وإنما باختيار النهايات الصعبة على القارئ، السهلة على أصحابها، بعد شعورهم بانتفاء القيمة وعبثية الصبر والأمل المزعوم. هي قصة متعددة الأبطال، وإن كانت بدايتها تأخذنا للتعرف على الشاب البسيط الطامح للهجرة للولايات المتحدة سعيا في حياةٍ أفضل، تؤهله للزواج من حبيبته. “إيوهان موريتز”، قروي في مطلع العمر، طيب لحدِّ السذاجة، لكنه إنسان يؤمن بالمبادئ والقيم، ولا يتخلى عنها في سبيل رغبات آنية. يفاجئه قدره بانتفاء حلم العمر في لحظات، يتسبب بها شر إنساني في ظاهره بسيط، تحركه الرغبة المحرمة، فتكون النتيجة هي الكارثة التي تسير عليها أحداث الرواية من بدايتها لنهايتها. في المقابل، تُظهر لنا الشخصية المثقفة المتفلسفة، تريان كوروغا، في حواراتها ورسائلها ومواقفها، ما أراد المؤلف بثه للقارئ من أفكار وتأملاتٍ عقلية فلسفية فكرية، تقوده في نهاية المطاف بأن يختار نهايته بنفسه، كصرخة رفض أن تُفرض عليه. هذا العالم الافتراضي الأكثر واقعية من الواقع الذي أوجده الراوي، لا يقتصر على قصة واحدة، ولا عدد من الأبطال، وإنما تأريخ روائي فريد من نوعه، قلما وجد له نظير؛ يُعري الحضارة الغربية الحداثية، ويكشف زيفها انطلاقا من نشوب الحرب العالمية الثانية، وسنوات مآسيها، وصولاً لراية الانتصار والمحاكمات العبثية في جانبٍ منها، الآخذة البريء بإثم الْمُذنب، لا لشيء سوى الانتماء الْمُشترك. هي الأخلاق، ونقيضها الحداثة، بين النسبية العقلية والتمركزية الإنسانية، وبين تقاطعاتها على أرض الواقع، في تناقض واضح بين ما يراه الدين والعرف والفطرة السليمة، وقانون الغاب الْمُقنن بمظاهر زائفة، سرعان ما ينكشف كذبها على أرض الواقع. حيث قوانين الحرب هي القانون والعدالة حتى لو قادت كمحصلة للظلم البيّن والاستعباد والإقصاء والتفرقة والعنصرية، التي على أنقاض تراثها الآثم، قامت الهوية الغربية الحديثة الليبرالية الديموقراطية، ويقودها الأمريكي، ويدور في فلكه الأوروبي الغربي. وفي الطرف المقابل، رغم اندحار النازية والفاشية، يسطع نجم الشيوعية وحلفها الجبري على الشرق الأوروبي، مؤذنةً بحربٍ جديدة تصنيفية، لا تقل فسادا وإبادة عن سابقاتها، مهما ادّعت أطرافها ونادت بالفردانية والحرية الفردية والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وحرية الرأي والاعتقاد والممارسة. فالفرد أثناء الحرب، وبعد انتهائها، كما صوره قسطنطين جيورجيو، عضو معطّل الإرادة والقرار وسط الأمة والجماعة المنتمي لها. هو كيان بشري تحول بفعل التدجين والتطويع والأيديولوجيا، لإنسان آلي مجرد من المشاعر والأحاسيس والرغبات الإنسانية الفردية. في لحظةٍ يكون فيها كالروبوت في المصنع، وفي مكان آخر روتيني يفعل ويردد ما يُطلب منه آلياً دون تذمر، وبالتزامٍ تام. لكنه حين يُستدعى لممارسة الشر وأفعاله، يتحول لكاسر خالٍ من أية مشاعر، قاتل ومغتصب وسارق بأخلاق حيوانية بدائية. هي ثنائية أوجدها قسطنطين جيورجيو، للإنسان بشقيه الصالح والطالح، الخيّر والشرير، في تقلباتٍ تفرضها السياسة والأيديولوجيا، وتستخدم لتنفيذها ثقافة القطيع. فما إن تكون المصلحة للجانب الخير، يظهر خيره، وما إن يطلب منه ممارسة الشر، يتحول من كونه مواطن بسيط، وأحيانا ضحية، لجلاد يُعذِّب ويقتل دون وازع ضمير. ربما أراد أن يلفت نظرنا وبشكل مبكر، قسطنطين جيورجيو، للعقل الأداتي الغربي، المصلحي الذي يطوع ما يملك من أدوات تحقيقاً لأهدافه، بغض النظر عن كونها مقبولة أو مرفوضة أخلاقياً. فقيمة الشيء تحدده نتائجه المرتبطة بمنفعته فقط. ولكن دون أن يقتصر ذلك على معسكره الغربي، بل الشرقي أيضاً، في تقاطع واضح للديموقراطية مع الشمولية الاستبدادية، حيث تختلف الوجوه والمظاهر، فيما يبقى الجوهر واحداً، يشير إلى أن كلاهما متماثلين بالشر. أغلب شخصيات وأبطال الرواية منزوعة الإرادة الحرة، فمصائرهم وحياتهم وعلاقاتهم وأسرهم وحتى مواطنتهم رهن باللا عدل، والشر والرغبة في الانتقام، والتفرقة العرقية والدينية المذهبية، والسياسية الأيديولوجية، التي سترسم نهايتهم وتحدد مصيرهم. فما إن يتم التصنيف، سيكون التيه اللامنتهي، الْمُنعدم معه الأمل بالنجاة، وسط سلسلة من الأحداث المتتالية والمتزامنة، يتخللها في كل لحظة الهمجية والغطرسة البشرية الْمُستندة لقانونها الوضعي، الْمُبرر لها ممارساتها. يجعلنا قسطنطين جيورجيو، نتساءل، لمَ هي الساعة الخامسة والعشرون، متجاوزةً عقارب الساعة: لنكتشف رمزيتها للساعة الأخيرة، حيث لا وقت يتبقى بعدها. هي رمزية اللاعودة، وانعدام الأمل بعودة العدل، وعبثية انتظار نجاة لن تأتي أبداً مهما بلغ الأمل، السبيل لتحقيقها. فهو أمل زائف في نهاية المطاف، يؤكد زيف الأمل بالرفاه الإنساني الذي تدعيه الحضارة الغربية الحداثية، وتناقضه بممارسات الشر الذي سوغه انعدام القيم والأخلاق ونسبيتها ومصلحيتها الفجة المتوحشة، التي لا تعرف التعاطف والشفقة والرحمة. هل انتهت ساعة قسطنطين جيورجيو الأخيرة والخامسة والعشرون، أما أن انتهاءها هو إيذان بانهيار الحضارة الغربية، أو بنهاية التاريخ التي روج لها فوكوياما، أم أنها ما زالت ساعة بعمر العقود الماضية والحاضرة والقادمة، تشير لاستمرار الظلم وغياب العدالة، وانعدام الأخلاق والعقلانية المتطرفة، التي لم تزل نظرتها للفرد، آلية علمية تقنية صناعية، يخدم هدف وغاية محددة. أي مجرد رقم في المنظومة الصناعية التقنية، حيث حياته وفناؤه، ليس أكثر من رقم في لعبة الأرقام، رغم أنهم يدعون أنه مواطن، فيما الواقع يشير لكونه المواطن الهجين من تزاوجه مع الآلة.