
هاجس المعنى هو الوميض الذي يشع وكنات الفكرة والغاية في ذهنية مستورة العرابي، فلا يبرح هذا الهاجس عن وعيها الإبداعي، وعن وعيها العلمي؛ فهو حاضر حضورا كليا، حتى غدت مفردة (المعنى) هي الحاضر والغائب في الوقت ذاته؛ حاضرة برسمها الظاهر، وغائبة بدلالاتها الخافية. في ديوانها (ما التبس بي.. ماغبتُ عنه) تخاطب المتلقي (بمعنى) ثائر لا ينصاع له بسهولة، ولا ينقاد له بوضوح، فهو ثورة في أبعاده الشكلية والمضامينية. والمعنى الذي يحمل صفة الوقار “ يأرن “ أحيانا كثيرة، ويجعل نصوصه حالة من الصدام الدلالي للمتلقي المؤطر بمعايير المعنى وصرامتها التقعيدية. هذا الصدام صدام استعاري عرفاني ينم عن أصالة التجربة، وتمثلاتها الذهنية المتلبسة بالمواقف الحية، والمماراسات الاجتماعية. إن عرفانية المعنى علاقة متجددة بين الروح والمعنى، علاقة لا يثبت معها المعنى بحرفيته، بل تداخله إدراكات الذات فتجعله كالباب الموارب الذي لا يمكن النفاذ منه بسهولة. إن المعنى المنسوج في سياقاته المعتادة في ذاكرة المتلقي لا يلتقي مع المعنى الذي تخاتله نصوص الديوان، ولا وجود له فيها؛ فالمعنى الذي يتأسس عليها أصبح بلا معنى، وهنا الإشكال الذي يجعل البحث عن المعنى في حالة مستمرة. ونلحظ أن عرفانية المفردة في ذاكرة الشاعرة يجعل (المعنى) في ظل محددات خوارزمية متحورة على مركزية الذات، وذاكرة الزمان، وذاكرة المكان، مصطفية ثلاثة ألفاظ (الأول/ روحي/ الليل) تتوارد في كل نص تقريبا؛ وهيمنت هيمنة بارزة على ذاكرتها الشعرية، وكان هذا نتيجة طبيعة حتمية لذلك العصف العقلي. ومن نوافذ متعددة نبحث عن المعنى بوصفه منطوقا لفظيا ينداح في كل مفاصل الديوان، ذلك المعنى الذي يخالج معنى ثاويا في تقاسيم الوطن إذ لا معنى سواه، وذلك المعنى الذي لا طريق له حين يحيطه الليل بموال حزين تخرج كلماته من الأرواح عبثاً وحين يستعصي عليه الاحتمال، ويعد غامض التأويل بلا عنوان؛ فسيد المعنى لم يُزل وحشة الروح رغم أنه تواشيح الندى المنزلة، بل يبقى تحت وطأة الرحيل. ورغم أن هذه التساؤلات لسيد المعنى محفوفة بالسلام والصلوات فقد بقيت في فضاء لا صدى لها فيه ولا جواب؛ فالكلمات المعشبة بقيت أيضا تحت طائلة تلك التساؤلات وإن دخلت سدرة المعنى فلا أحد هناك يقدم مددا، أو يقص لها الحكايا، لكن يبقى لهذا المعنى اقتراح مجامل وماض في الطريق لكل من رأى الوجع ولم يتقمص دور الصداقة. هذه الأوجاع تزهد في المعنى؛ فقد تكسرت تلك الأسئلة كلها في المرايا وعلى نحو يكشف لنا قلق المعنى تغذ الشاعرة السير في مخاضه بين حضور وغياب، ووضوح وغموض، ولا تسعفها تلك النوافذ المتعددة للحصول عليه، واستجلاء إرهاصاته ومقدماته، وعمقه وسطحه، ولكأنها بهذه الحيرة والمفارقات تستدعي تراكمات الذاكرة المنسوجة من تقلبات الحياة التي يأتي معها المعنى متقلبا، دائرا حيث تدور. يبقى المعنى عند الشاعرة هاجسا متصلا فلا تكاد تبرح لفظه، فهو حاضر لفظا في عتبات إنجازها الشعري والنقدي، وحتى في عبارات الإهداء. وهذا الحضور اللفظي مخبوء، ومُشرِّع لدلالات منفتحة، بل هو ما جعل المعنى هنا بلا معنى محدد. إن البنية الكلية للمعنى في الديوان تتزعم أمرين، الأول: مركزية الذات الطاغية، والتي تشي بنرجسية لا تقارب نرجسية المتنبي، لكنها تظهر دلالاتها في لفظ (الأول) وما يتفرع منها كـ (أول، الأولى)، أو ما يرادفها كـ (فاتحة، الضحى، القديم). وتتقلب هذه المفردة ابتداء من تأسيس الهوية كماهية أساس، إلى الخطيئة الأولى، إلى التنهيدة الأولى، إلى القصائد الأولى، إلى الوردة الأولى، إلى السماء الأولى، إلى الورق القديم. أما العمق الذي يجمع ذلك كله فهي تلك (الروح) التي يجتمع فيها المعنى، والمفردة والكلام، والضحكة، والحب، والموسيقى، والقبس، والورد المتجذر بترابها. أما الأمر الآخر فهو الذاكرة البينية التي تتوسل بدلالات الزمان والمكان، فبين مدارج الزمان تظهر تلك الأوراق الواضحة كالضحى، كي يُطبق عليها ذلك الليل، ثم تختبئ فيه لتتنفس في ظلاله، وتستجدي ماذا يقول هذا الليل؟! إنه يقول موالا حزينا سيفسر ذاكرته ذلك النهار الرحب تفسيرا بلا معنى. وكما هي تلك الذات بين مدارج الزمان، هي كذلك بين مدارج المكان مظهرة التوسل بالنوافذ والشبابيك المغلقة، وهي وإن فتحت تبقى في انتظار بكل وجعها وهاجسها، ويبقى معها الكلام غامض التأويل، وربما يُرى في الماء مزهوا تحتضنه الروح.