(نبوءة الهدهد) لدى جبير المليحان.

إذا تحدثتُ عن (نبوءة الهدهد) لدى جبير المليحان سيجرني الحديث عن الطبعة الأولى من أي كتاب وأي فكرة قبل أن تندرج في ملف الذكرى و صفحات الغياب . …. فالطبعة الأولى -التي تؤطّر حياتنا المبكرة من وعي متقد- لها خصوصية ليس لكونها صورة مصغرة لبداية قد تتجاوز الأزمنة وتكبر بطريقة مُلحَّة عبر التجربة والمحاولات الصاعدة ؛ لكنها تعكس الانطباع وتُبيّن الطبع والأطباع في الأسلوب وفي التناول وفي الغلاف وحتى في إهدائها للمهتمين … جبير المليحان كان الطبعة الأولى من كتاب القدر الذي ألهمتنا نبوءة الهدهد دون يسرد تفاصيلها، وكل من عرفه استلم نسخته موقعة برائحة القهوة الحائلية ممزوجة بدهشة الساحل الشرقي الذي هواه و اتسع في مداه حتى انتقل إلى الرفيع الأعلى تُودِّعه الخضرة ويرثيه اليامال وتُخضبِّه الشواطئ وترثيه حكايات القُرى التي تجرّعتْ الفقد “فجأة” مع أن النبوءة مازالت تُطُلُّ من نافذة سُليمان . لم يكن جبير المليحان شخصية عادية و لا يمكن أن يكون عابرا لمن عرفوه حيث كان مؤثراً بوعيه وبأفكاره قبل سرده القصصي الذي تمثل في عدة روايات ومجموعات قصصية أسهمت مبكرا في حراك ثقافي لاسيما بعد تبنيه مشروع (موقع القصة العربية) الذي أوجز حكاية الهدهد وأطال نبأ سليمان و وشم على صدر الأبجدية نارَ الرواة في لغة شعبية أحيانا مع حس نخبوي في مواضع أخرى غير أنه شغوف بالإنسان الذي قَمَّصه أحلامه وتقمَّص أوهامه حتى بات مفردا بصيغة الجمع وواحدا عن ألف رجل يسير ومعه مفاهيم تحدو خطاه ؛ فهو جاد رغم ابتسامته وهادئ في صخبه أيضا . …. الذين عرفوا جبير المليحان في الميدان التربوي غير الذي عرفوه في المشهد الثقافي وليس هنالك بونٌ شاسع بينهما لكن الشخصية تختلف في سَمتِها وسِمتها حيث تتطلب كاريزما مرنة لدى التربويين بينما المبدعون أكثر انغماسا في هوى التجربة و أقل التفاتا للنظريات التي ينبغي أن تطبقها على نفسك قبل الآخرين و هو ما يعني الحذر قبل الممارسة والإدراك قبل اندماجك في أي نشاط تعليمي . لقد كان حكيما متجردا يأخذك إليه كما لو أنك جزء منه، يساعدك فيما تريد ويعزز من وجودك معه بل يرغمك أن تصقل إبداعك باستقلالية تامة وهو ما جعل إدارته لأدبي الشرقية ناجحة بكل المقاييس رغم المُماحكات ومزاجية المثقفين لاسيما أن النادي مرّ بتجارب وأهواء سابقة جعلته يُكرّس الطبقية والمحسوبية والطيف الواحد الذي صهره المليحان في بوتقة العمل الخلاق وانتقل به من مرحلة الصراع إلى الإنتاج الإبداعي مثيرا للجدل ومُحققا أعلى معايير التنمية الثقافية والفكرية والأدبي في آن . …. أما تجربته القصصية لا نتحدث عنها بمنعزل عن قيمه الإنسانية التي رسمت ملامحه مبكرا في مرآة الثقافة، وبات أيقونة تنفتح على عوالم السرد كما كشف رؤاه ليُصبح عرابا للتغيير ومزمارا يُطرب الحيَّ ضمن أوركسترا حية و لم يكن يوما في جوقةٍ نُحاسية . كان زاهدا ثقافيا بامتياز ولم تغره المناصب التي كانت تخطب وده رغم ريادته للقصة القصيرة في السعودية، وقد آمن كثيرا بغيره كما لم يؤمن بذاته حيث يُهذِّبُ ذاته بمقدار شغفه بالآخرين، وأتذكره -حين ترأس مجلس أدبي الشرقية- لم يمنع أحدا وتجنّب كل الصراعات الدائرة حتى تستقر ساحة الأدب ويلعب المثقف بمضماره دون لغط . يقول -في حوار سابق- : “كنت أتهيب السفر في السرد الطويل في الكتابة غير أن الحكايات التي أحملها بذاكرتي بدأت تعيش معي حتى أمضتني ….” لكن الحكاية لم تُمهله كي يُنجزها مع أنه أنجز الكثير إلا أننا نؤمن معه بالتكامل و الوعي المشترك الذي يجعلنا أوفياء لمنجز كبير لابد من مسايرته والسير باتجاهه ليتسع المشهد مع “أصدقاء وتلامذة جبير” الذي ادخرهم لقصة أكبر يعرفها الهدهد جيدا كما تنبأ بها ذات زمن .