حين تتحول الحلبة إلى سوق..

التنافسية بين شرارة الإلهام وظلال الاحتكار.

لا يختلف عالم الشركات عن حلبة السباق، فكلاهما يقوم على الحافز ذاته: الرغبة في التقدّم وإثبات الذات. التنافسية في جوهرها هي الشرارة التي تدفع المؤسسات إلى الإبداع، وتحثّها على التجديد، وتُبقي الأسواق في حالة يقظة دائمة. وحين يجد القائد نفسه أمام منافس حقيقي، يدرك أن الاستمرار لا يتحقق بالمصادفة، بل بالاستراتيجية والقدرة على التغيير، وأن قيمة النجاح لا تُقاس بالانتصار اللحظي بل بالقدرة على البقاء في مسار طويل ومعقّد. غير أن التنافسية، كالنار، لها وجه آخر، فهي تضيء حين تُدار بوعي، وقد تحرق حين تُترك بلا ضابط. فإذا تحولت إلى هيمنة مطلقة يسيطر فيها لاعب واحد على السوق ويغلق الأبواب أمام الداخلين الجدد، فإن النتيجة لا تكون ابتكاراً ولا تطوراً، بل جموداً يضعف ثقة المستهلك ويُفقِد الاستثمار روحه. ومن أصدق الأمثلة على ذلك فيلم Rush المبني على أحداث حقيقية في سباقات الفورمولا ون في السبعينات، حين واجه «نيكي لاودا» خصمه «جيمس هانت» في صراع لم يكن مجرد منافسة رياضية، بل درساً في معنى أن يُخرج التنافس أفضل ما في الإنسان، وأن يدفعه أحياناً إلى حدود الخطر. «لاودا»، بانضباطه وتحليله الدقيق، و»هانت»، بشغفه الجامح وروحه المندفعة، جسّدا معاً كيف يمكن للمنافسة أن تُلهم وتبني، وإن اقتربت أحياناً من حافة الانهيار عندما يطغى السعي إلى الفوز على التوازن. هذه القصة تلخص كثيراً مما يحدث في أسواقنا، فوجود منافسين متعددين يحافظ على حيوية السوق، لكن غياب تكافؤ الفرص أو الإفراط في القوة من طرف واحد قد يُحوّل الحلبة إلى مشهد بلا معنى. ولعل القطاع الصحي الخاص يقدم مثالاً حياً على ذلك، فهو قطاع حيوي يمس صحة الإنسان وجودة حياته، ومع ذلك يمكن ملاحظة بعض التباينات، حيث تبدو المسارات أكثر سلاسة أمام المؤسسات الكبرى، فيما تواجه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة صعوبات أو تعقيدات أكبر. ومع دخول شركات التأمين على الخط يتضاعف الأثر، فهي في كثير من الأحيان تُثقل الكاهل بشروط وأسعار قاسية، بينما تُظهر مرونة أكبر مع الكبار نظراً لمكانتهم وقوتهم التفاوضية، فتكون المحصلة أن الكبار يزدادون قوة واتساعاً، فيما يجد البقية أنفسهم أمام تحديات تستنزف مواردهم وقدرتهم على المنافسة. ومن هنا يبرز بُعد آخر بالغ الأهمية يرتبط برؤية المملكة 2030 التي جعلت من خصخصة قطاع الصحة هدفاً استراتيجياً. نجاح هذا التوجه لا يقاس فقط بعدد الصفقات أو سرعة الانتقال، بل بمدى نضج السوق واستعداده لاحتضان الجميع، بحيث تُبنى منظومة صحية قادرة على الاستدامة والتنافسية الإيجابية، وتُترجم الخصخصة إلى قيمة مضافة حقيقية للمجتمع. فالقطاع الخاص حين يُمنح بيئة عادلة يتقاسم فيها فرص النمو، يصبح شريكاً فاعلاً في تحقيق الرؤية، ويُسهم في تعزيز جودة الحياة، بدلاً من أن يتحول إلى ساحة تُعيد إنتاج الاحتكار بأشكال جديدة. وفي الوقت نفسه، فإن النجاح الحقيقي لا يقوم على استقدام كيانات جاهزة للهيمنة، بل على صناعة بيئة تسمح بنمو شركات محلية تحمل قصتها ومعناها المرتبط بالمنطقة، وتسهم في إثراء المشهد الاقتصادي والاجتماعي. إن التنافسية الحقيقية لا تُقاس بغياب المنافس، بل بقدرتنا على إبقاء الباب مفتوحاً للجميع، بحيث يظل السوق حياً، نابضاً بالإبداع، متوازناً بين الطموح والمسؤولية، ومحصناً ضد الجمود الذي يصنعه الاحتكار. وكما أن سباق الفورمولا يفقد معناه لو تُرك لسائق واحد يسيطر على الحلبة، فإن السوق يخسر قيمته حين يقتصر على قلة محتكرة. الدرس الذي يقدمه Rush، والواقع الذي نراه في أسواقنا، يؤكد أن التنافسية ليست صراعاً على أرقام جامدة، بل امتحان للقدرة على خلق توازن عادل يضمن استمرارية الإبداع ويمنح الجميع فرصة الدخول إلى السباق، وفي ذلك تكمن روح الرؤية وأساس نجاحها. * مستشار موارد بشرية