
يروي هذا الكتاب وقائع خروج أسرة يهودية من مصر، مؤلفته لوسيت لينادو، كاتبة أمريكية يهودية، عملت مراسلة لجريدة “وول ستريت جورنال” الأمريكية ، لا تحمل هذه الطبعة اسم المترجم، رغم أن الكتاب مكتوب بصورة أنيقة، وقد علق على السيرة الروائي المصري محمود حسن يونس، وهو رجل ذو تجربة فريدة ، فقد كتب عن تجربته كأسير مصري في الدولة الصهيونية في حرب عام ١٩٦٧، في كتابه “ خطوات على الأرض المحبوسة”، فصل فيه عن تعرض أسرى مصريين للقتل على يد آسريهم من الصهاينة. المعلق كان يسكن بين عامى ١٩٤٣ - ١٩٦٣ في حي السكاكيني في نفس الفترة التي عاشت فيها أسرة المؤلفة. حي السكاكيني منسوب إلى مؤسسه الثري اليهودي حبيب جبرائيل أنطون الملقب بالسكاكيني، وأحاطت المنطقة بالقصر المسمى قصر السكاكيني، وهو تحفة فنية معمارية، أقيم حي السكاكيني في أواخر القرن التاسع عشر حول جامع الظاهر بيبرس، المنطقة كانت تضم مقابر المماليك. التي نشأت في المنطقة بين قاهرة إسماعيل والقاهرة الفاطمية من جهة وقاهرة عباس التي كانت تضم ثكنات الجيش في الجهة الغربية من القاهرة. الوقت الذي بني فيه حي السكاكيني كان الوقت الذي هاجر فيه كثيرون إلى مصر من الشوام ومن اليونانيين والإيطاليين واليهود من مناطق مختلفة من العالم، وقد هاجروا أما بحثا عن الأمان وإما بحثا عن الثراء. أسرة المؤلفة من يهود حلب وكانت من حيث عاداتها وطرق حياتها عربية جدا، وإن اكتسبت بعض الصفات الأوربية من خلال اختلاطها بالجنود البريطانيين وحلفائهم، ولذا فقد كنت تجدها عربية داخل بيوتها لكنها تكتسب ثقافة أوروبية بحكم التعليم الأجنبي الرفيع الذي كانوا ينتمون إلى مؤسساته الكثيرة، وكان كثيرون منهم يجيدون أكثر من لغة. تنقل الكاتبة صورة فائقة الرومانسية عن حياة العائلة في شارع الملكة نازلي (رمسيس) ، شقة رحبة الأرجاء في الدور الأرضي، تفتح نوافذها الواسعة على الميدان والحواري الجانبية، الإطلال من نافذة البيت كان الجلسة المحببة للأب ليون وابنته، النوافذ الجانبية كانت تتيح المجال لمتابعة الباعة الجائلين، وشراء الخضر واللحوم والأسماك والزهور منهم، كل قطعة أثاث لها حكاية، الأناقة بادية على كل شيء، والجدة الحلبية ظريفة تشرف على الوجبات الغذائية التى تتفوق فيها على أرقى المطاعم، كما إن مطاعم القاهرة الكوزموبوليتانية تزود البيوت بالحلويات التي تتفوق على المنتجات الباريسية. ليون الأب الذي يلبس البدلة البيضاء الشركسكين دائما، عماد البيت، كما هو عماد الأسرة الممتدة، هذا النوع من البدل كان رمزا للرغبة في الارتقاء، يلتقط ليون لقمة العيش عن طريق الوساطة التجارية مع صغار البائعين و البورصة، يقيم طقوس الدين في بيته وفي المعبد القريب، ولكنه يعيش حياة مزدوجة ففى النهار، ارتزاق وطقوس دينية، وفي الليل الملاهي والمقاهي وصالات القمار. يدعي أنه لعب القمار مع فاروق ملك مصر، وأنه أوقع في حبائل جاذبيته المغنية أم كلثوم. في البيت يجلس سعيدا بجوار الراديو، يستمتع بالموسيقى العربية وبالإطلال على الميدان، وأحيانا بتبادل التحيات مع الجيران. وأخيرا قرر أن يتزوج عندما رأى ايديث ابنة العشرين في مقهى الباريزيانا. في نفس الجلسة اتفقا على الزواج، وقام بدفع الدوطة، وهي مبلغ مالى تدفعه الزوجة اليهودية لزوجها، ونظرا لفقر الزوجة فقد تحمله ليون. أم الزوجة من يهود الإسكندرية تلقت تعليما راقيا ، ولم تكن تتحدث العربية، ولكنها في سن خمسة عشر وقعت في حبائل يهودي جذاب نصاب، تخلت أسرتها عنها بسببه، جاءت معه للقاهرة لتكتشف أنه كان يعيش من التحايل بالزواج من الثريات، وسرعان ما أصبحت حياتها بائسة مع زوج أنجبت منه ثلاثة أطفال لم يكن يجيد في حياته عملا، أما هي فلم تكن تعرف المطبخ ولا الاعتناء بالبيت ولا تربية الأطفال، تجيد فقط العزف على البيانو والتدخين وشرب القهوة التركية، وأخيرا أخذ الأب الطفل الصغير ليستنشق الهواء ثم اختفى الطفل ادعى الأب أنه باعه، فجُنت الأم، أصبحت العائلة تعيش على رعاية أبناء زوجها والجمعيات الخيرية اليهودية. تلقت ابنتها تعليما أوروبيا مرموقا، واستطاعت الحصول على وظيفة مدرسة في إحدى مدارس المليونير اليهودي قطاوي المقرب من الملك فاروق، وبسرعة ترقت حتى أصبحت أمينة المكتبة الخاصة بيوسف قطاوي، وأصبحت هى مورد المال لأمها وأخيها الذي سار في طريق النصب كأبيه. عندما تزوجت إيديث لم تعد تعمل، فتقاليد اليهود الحلبيين لا تسمح للمرأة بالعمل بعد الزواج . وبما أنها لم تكن تجيد فنون الطبخ فقد خلا المطبخ للأم ظريفة، ولكن ظريفة أصبحت تعلن عدم رضاها عن افتقار كنتها للكفاءة في فنون العيش المنزلية. الزواج ساهم في إعادة ليون إلى البيت متخليا عن حياة الليل ولكن مؤقتا فسرعان ما عاد إلى حياته السابقة، وأصبح الزوجان يعيشان في غرفتين منفصلتين، ورغم ذلك فإن الحياة كانت تسير بأناقة وسلاسة. احتفالات في المواسم الدينية تجمع الأسرة، وأعياد الميلاد وزيارة المطاعم الراقية و الإصطياف السنوي في الإسكندرية. فُجعت الأسرة بمقتل العمة المهاجرة إلى إيطاليا و زوجها في معسكر أوشفيتز النازي، كما اختصمت الأسرة مع ابنها الذي تحول إلى المسيحية وأصبح راهبا في إحدى كنائس القدس. كذلك مرت الأسرة بظروف قاسية فقد أصاب التيفود الأم الحامل و لم يتم تشخيص مرضها إلا بعد الولادة وماتت طفلتها، الابنة الكبرى كرهت أباها حين علمت أنه سماها ظريفة على اسم أمه وأنه شعر بالتعاسة عند ولادتها طفلةً وليس طفلا، و بقيت متنافرة مع والدها طوال العمر، أما لوسيت المدللة صغرى العائلة فعاشت مع أبيها يتبادلان رومانسية الحب بين أب غربت شمسه منذ انقلبت حياة اليهود بعد إنشاء اسرائيل، لم تراع الكاتبة الدقة فيما كتبته عن أسباب هجرة اليهود المصريين. فبسبب ظروف العدوان الثلاثي على مصر، الذي جاء لمعاقبة مصر على تأميم قناة السويس أصبح اليهود موضع شبهة، واتُخذت قرارات بتأميم الممتلكات التجارية للأجانب، وكان أكثر اليهود يحملون جنسيات أوروبية لما كان لها من مزايا. عائلة لينادو كما يبدو كانت تحمل الجنسية العثمانية ولعلها أصبحت مصرية مثل كل أمثالها، أو أنها لم تجد ضرورة للحصول على الجنسية المصرية التى كانت متاحة ، ولذا فلم يجد أكثرهم بما فيهم الجدة أليكساندرا مكانا للهجرة غير الكيان الصهيوني، لم توضح الكاتبة ما نعرفه من مذكرات الكاتب الإسرائيلي العراقي آفي شلايم عن المعاملة الدونية التى لقيها اليهود العرب في الكيان الصهيوني، ولذا وجدنا عائلة لينادو وقد أُنزلوا في كيبوتسات تصعب فيها الحياة، وخاصة حين تُقارن برخاوة الحياة في مصر، فرغم كل شيء كان المجتمع المصري يحافظ على احترام العلاقات الإنسانية دون تكلف، عانت الجدة ألكساندرا كثيرا قبل موتها، حتى أن ابنها النصاب تركها وحيدة وذهب إلى جنيف ولم يعد حتى ماتت . ليون الذي شجعهم على الهجرة لم يهاجر مع عائلته وجاء كسر ساقه ودخوله مستشفى جامعة عين شمس ليزيد من صعوبة حياته، ولكن زيارات الطبيب المصري كانت تخفف عنه، وعندما تبين أنه بحاجة إلى أن يجري عملية أخرى لإعادة تثبيت مسمار الساق تكاسل، وراح يراسل جراحين في أكثر من دولة فدعوه للسفر لاجراء العملية في بريطانيا أو فرنسا لكنه بقى راضيا بمعاناته، يعرج متألما في مشيته ولكن يكابر. بقيت الاسرة في مصر حتى عام ١٩٦٢ ، لم يحصل عليهم أى اضطهاد ولكن كثيرين من أهاليهم هاجروا ، قرر أن يهاجر فقط عندما أودعت ابنته غرفة التوقيف مع العاهرات، حتى استطاع اخلاء سبيلها بأناقة تعامله وخفة يده في توزيع الرشاوى، ما حدث هو أن ابنته الكبرى التى قاربت العشرين كانت تسير مع صديقتها في أحد شوارع القاهرة ، دعاهما جنديان من قوات حفظ السلام من دولة السويد إلى مجالستهما في مقهى فندق هيلتون، وهناك ألقى جنود القبض عليهما، فقد كانت مثل هذه التصرفات تحت المجهر. هنا قرر الوالد الهجرة. حملت الأسرة ذكرياتها في ست وعشرين حقيبة ضمت حقيبة ثوب زفاف الأم الفاخر. في السفينة إلى باريس كان الوالد يكرر “عايزين نرجع مصر”، وكثيرا ما كان يكرر “ ربنا كبير” . في باريس نزلا في فندق رتبته لهم الجمعية التي دعمت هجرتهم ، أحاطت هجرتهم إلى أوروبا وأمريكا الكثير من العقبات والإذلال . لم تكن الحياة سهلة، كان من يرتب الهجرة يتعامل مع ليون الأب المحترم تعاملا دونيا ، خاصة وأنهم متشككون من قدرته على كسب الرزق. ولذا فإن المصاعب تجاه قبول هجرتهم إلى أمريكا كانت تهين الرجل الذي اعتاد التميز. و أخيرا وصلوا إلى أمريكا، تنقلوا من فندق قذر عبر ثلاثة مساكن ، ما أن يستقروا حتى يحدث شيء يجعل جيرانهم يكشرون عن أنيابهم، مع الوقت أصبح هناك تجمع لليهود الحلبيين وكنيس، يأتنس الوالد مع كتاب الصلوات الذي لا يفارقه ، ويقضي باقي الوقت يبيع ربطات العنق الحريرية المستوردة من باريس وروما، كان يفشل كثيرا ولكنه يقاسي بعرجته حتى يتغلب على الفقر، كانت ربطات العنق والأقمشة الجميلة تصنع في مصنع محلى يزور بطاقات المواصفات، الرعاية الصحية في أمريكا كانت للأغنياء، أما أمثالهم من الفقراء فلم يكن متاحا لهم إلا المستوى الرديء من الرعاية الصحية، ولكن الوالد تذلل بأناقة شديدة للطبيب المشهور الذي يحتاجه لعلاج ابنته من مرض خدش القطط (مرض هودجكن) وهو نوع من أنواع السرطان، أخذ الوالد يقرأ صلواته ويتوقع معجزةً وقد كان ، فقد شفيت ابنته. ولكن ابنته الأخرى غادرت الأسرة، وكانت تلك قاصمة الظهر لليهودي الحلبي فقد ذهبت لتعيش وحدها، وكذلك ابنه الآخر، ثم باقي أفراد الأسرة، ودخل الأب في أمراض باركنسون، والزهايمر، والتقى هو وزوجته في نفس المستشفى، لم يتعرفا على بعض، كان تعارفهما يعني إقرارا بالمرض. قضيا آخر أيامهما في مركز لرعاية المسنين، لم تكن حياتهم لو بقوا في مصر لتنتهي إلى هذا البؤس ، كان الموت سيأتيهم وهم في بيوتهم بين أهليهم ، لا وهم يعانون صقيع العواطف الجافة، حتي الابنة المدللة كانت متشاغلة بعملها عنهم ، وعند الموت لم يكتمل النصاب لقراءة مزامير داوود على روحه في كنيس الحب والصداقة، وقَبِل الحاخام أن تشارك ابنته في الصلاة لإكمال النصاب، المفروض أن يكتمل النصاب بالرجال وحدهم. عادت الكاتبة عندما بلغت الخمسين إلى مصر، زارت شقتهم، بقيت الشقة على أناقتها لكن سلالم العمارة أصبحت قذرة جدا وكأنها لم تُغسل منذ غادرها ليون، جارتها في الدور الأعلى دعتها لزيارتها، اعتذرت بأنها لا تستطيع النزول، قابلتها بالود والحب، والمشاعر الدافئة التي كان ليون يفتقدهما في كل منافيه، والتى كان الحنين إليها يلتهب في قلبه، عرضت الجارة استضافتها في بيتها بأريحية أبكتها، الناس هم الناس، ولكن القاهرة الراقية أصبحت مثل حي بروكلين غير الراقي في نيويورك. كان المشروع الصهيوني كارثيا على العرب الفلسطينيين وعلى اليهود العرب وما زال، عجل الله نهايته.