هل أصبحت الثقافة رفاهية؟

لطالما ارتبطت الثقافة في مجتمعاتنا العربية بالهوية، والوعي، والتحرر الفكري. لكن حين ازداد تسارع العالم من حولنا، وباتت الماديات تحكم حياتنا اليومية وتفرض الأولويات الاقتصادية سلطتها على كل شيء، بدأت الثقافة تتسلل تدريجيًا إلى خانة «الرفاهية»، كأنها سلعة فاخرة لا يملكها إلا من يملك فائض من الوقت أو المال، بعد أن كانت حاجة أساسية في حياة الإنسان. لماذا أصبحت القراءة، وحضور المعارض الفنية، والمسرح، والندوات الأدبية، والأمسيات الثقافية حكرًا على فئة مخصصة من الناس؟ ومتى تحولت الثقافة من غذاء للروح والعقل إلى شيء ثانوي في سلم الأولويات؟ هل أصبحت الثقافة رفاهية حقا؟ في لحظات التحول الكبرى، حيث تنهض الأمم أو تواجه التحديات، كانت الثقافة حاضرة في المقدمة دائمًا، كانت جزءًا لا يتجزأ من حياة المجتمعات، كانت وسيلة لفهم العالم والتعبير عن الذات. لم تكن ترف للمجتمعات بل جوهرها، فهي ما تربط الإنسان بجذوره وتمنحه وعيًا يتجاوز المألوف، فيؤهله للفهم لا للحفظ، وللتحليل لا للتلقي. في بدايات النهضة العربية لم تكن الثقافة خاصة بالنخبة، بل مطلبًا شعبيًا، كانت خبزًا لا ترفًا. كان المقهى الثقافي مزدحمًا كالمخبز، وكان المثقف صوتًا لا يمكن تجاهله في الحياة العامة، سواء عبر الحكايات الشعبية، أو الشعر، أو الفنون التشكيلية، أو حتى النقاشات الفلسفية في الساحات العامة. أما الان كل شيء تغير نحن نرى الثقافة تختزل في منتجات استهلاكية باهظة الثمن: الكتب تباع بأسعار مرتفعة، المسارح والمعارض والمتاحف محصورة لمن يملك الوقت والمال وطول البال، حتى النقاش الثقافي انتقل إلى منصات النخبة. أصبحت الثقافة تخضع للحالة الاقتصادية للجمهور وليس لحاجته. أحد الأسباب الرئيسية لتحول الثقافة إلى رفاهية هو تحميل الفرد كامل المسؤولية عن تمويلها. فبدلًا من أن تكون المكتبات العامة مجانية ومتاحة للجميع، نجد أن شراء الكتب أصبح عبئًا على الكثيرين. وبدلًا من دعم المسارح والفن، نجد أن العروض الفنية تباع بأسعار لا يستطيع الكثيرين تحملها، حتى التعليم الذي يعتبر بوابة الثقافة، أصبح في بعض المجتمعات نخبويًا. في المقابل نرى أن المجتمعات التي حافظت على دعمها للثقافة، لا تزال الثقافة حيوية ومتاحة لديهم للجميع. الفرق هنا هو النظرة إلى الثقافة كاستثمار في الإنسان، وليس كسلعة كمالية. فالمجتمعات حين تهمش الثقافة لا تصبح أكثر إنتاجية، بل أكثر هشاشة. والإنسان الذي لا يقرأ، ولا يتأمل، ولا يفكر، يصبح فريسة سهلة للسطحية والتكرار والضجيج. الثقافة يجب ألا تبرر وجودها بالأرباح، وكأن الفكر لا يثمر إن لم يأت في علبة استثمارية قابلة للبيع. لنعيد الثقافة إلى مكانتها... علينا أن ندرك أن الثقافة ليست حكرًا على الصالات ولا النخب، بل ضرورة مثل الخبز والماء. وأن نعترف أن الكتب، الفن، المسرح، السينما، الشعر، الحكايات... كلها ليس كماليات، بل آليات لفهم الذات والعالم. علينا أن نعيدها إلى ضرورة يومية بعد أن أصبحت منتجًا فاخرًا: •تعزيز الثقافة المجانية عبر المكتبات العامة، والندوات المفتوحة، والمعارض المدعومة، والكتب الأقل تكلفة. •إدراج الثقافة في التعليم بجعل القراءة والفنون جزء أساسيًا من المناهج الدراسية، وإنشاء برامج ثقافية في المدارس. •تفعيل دور الإعلام بأن يقدم محتوى ثقافي جاد بدلًا من التركيز على الترفيه التجاري. •تفعيل دور المبادرات المجتمعية بتشجيع النوادي الثقافية، مجموعات القراءة، وورش العمل الفنية، وتفعيل دور المثقف في الفضاء العام، لا في قاعات النخبة فقط. الثقافة ليست رفاهية، بل أساس لتطور المجتمعات وضمانة لاستمرارها، هي سلاح المجتمع أمام التفاهة والانهيار القيمي. لذلك يجب أن نعيد تعريف الثقافة كحق للجميع، وليس امتيازًا لفئة معينة. وما لم نفعل ذلك سنجد أنفسنا في عالم يضج بالضجيج... ويخلو من المعنى.