محاذير وطنية.

منذ فجر التاريخ لم تسلم البشرية من الحسد والعداوات، بدءاً من إبليس حين أغوى أبانا آدم عليه السلام، وصولاً إلى عصرنا الراهن حيث تطورت أساليب الخصومة عبر وسائل الاتصال الحديثة. واليوم نشهد محاولات مدروسة، عبر حسابات وهمية وأسماء منتحلة، لتأجيج الرأي العام وإشاعة الفوضى، من خلال تضخيم قضايا مثل البطالة أو بعض النقص البسيط في الخدمات، أو خلق التعصب في المجال الرياضي بين مشجعي الفرق السعودية. وهذا الأسلوب لا يعد طريقاً وطنياً للإصلاح، فالوطنية الحقة تعالج القضايا بموضوعية، لا بإثارتها على شكل ترندات مفتعلة. ولعل من المناسب ذكره ما نراه على منصات التواصل الاجتماعي مؤخراً من محاولات لإثارة النعرات القبلية، سواء عبر شعر المحاورة أو غيره، مما يفتح باب التنابز بالألقاب وتحقير القبائل بعضها لبعض، فيغدو مجالاً رحباً للمغرضين من خارج الوطن الذين يتظاهرون بأنهم من أبنائه، بينما هم يسعون لإشعال فتيل الخصومة القبلية لغرض في نفس يعقوب. وهذا مسلك خطير لا يقل ضرراً عن غيره من محاولات التأجيج المصطنعة، التي تنتهجها الحسابات الوهمية التي تدار من خارج الوطن، والتي تتدثر بشعارات وطنية زائفة، فتضع العلم السعودي خلفية، أو صورة لشخصية مختلقة ترتدي الشماغ والعقال، لتوهم المتابعين بأنها أصوات محلية صادقة. والحقيقة أنها أدوات مأجورة غايتها زرع الشك وتأجيج الفتنة، وهو ما يفرض على القارئ الواعي أن يميز بين الصادق والمصطنع. والمشكلة أن التضخيم لا يقف عند حدود القضايا الحياتية والخدمية والقبلية، بل يمتد أحياناً إلى المبالغة في المطالبة بتوطين منشآت القطاع الخاص. ورغم أن التوطين هدف وطني نبيل، إلا أن تحويله إلى ترندات انفعالية تجيش عواطف البسطاء ألحق الضرر ببعض المنشآت الوطنية بدل دعمها. بل إن بعض تلك الحسابات التي تتدثر بشعارات الوطنية تحاول إثارة الإشكال بين السعوديين وأشقائهم العرب عبر السب والقذف، والدعوة إلى إبعادهم من المملكة، وهو أسلوب مستهجن يسيء لصاحبه قبل أن يسيء لغيره، ويزرع الأحقاد في النفوس بما لا يليق بقيم مجتمعنا ولا بتعاليم ديننا. ولأن الوطنية الصادقة لا تقاس بضجيج الترندات ولا بالمظاهر الصاخبة، بل تقاس بصدق الانتماء وعمق الولاء، فإن خير من جسدها في أبهى صورها رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم – حين قال لمكة المكرمة: (والله إنك لأحب البلاد إلى الله وأحب البلاد إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت أبداً). بهذا القول أبان – عليه الصلاة والسلام – أن حب الوطن انتماء صادق وحكمة في التعامل، لا مجرد شعارات أو ألفاظ بذيئة وأسلوب غوغائي. من هنا، فإن الدور الوطني الحقيقي يفرض علينا أن لا نكون وقوداً لتلك الترندات المفتعلة؛ فلا إعجاب ولا إعادة تدوير ولا تعليق يضفي عليها حياة. بل إن الحذر والوعي هما السلاح الأقوى في وجه المتربصين، وذلك بكشف الزيف، وتجاهل التأجيج، وترك المجال للجهات المختصة للقيام بدورها في الردع والمعالجة. فالوطن لا يحمى بالصوت العالي، بل بالعقل الرزين والبصيرة النافذة التي تقطع الطريق على كل عدو متربص زنيم. ولا يخفى أن بعض المشاركات في الترندات قد تأتي من مواطنين مخلصين، تأخذهم الحماسة الوطنية فيظنون أن أفضل رد على مقطع مسيء أو دعوى إصلاحية زائفة هو إعادة نشره بالاقتباس مع تعليق غاضب أو ساخر. لكن الحقيقة أن هذا السلوك – مع حسن النية فيه – يسهم في مضاعفة انتشار المادة المسيئة وإيصالها إلى جمهور أوسع، فيتحقق مقصد المسيء بدل أن يحاصر بالوعي الذي يقتضي أن يكون الرد بالطرق الصحيحة: إما بالإبلاغ، أو بترك المجال للجهات المختصة، أو بكشف الزيف دون إعادة تدوير المحتوى المضلل. إن الوطنية الحقة تعني أن نكون حصناً منيعاً ضد كل ما يضر بوطننا مادياً أو معنوياً، وأن نحمي وحدتنا بلغة الحكمة لا لغة الانفعال. وقد أوصانا الله تعالى بقوله: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، وفي تراثنا قال الإمام الشافعي: إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت والعقلاء يدركون أن الحكمة هي التي تميت الفتنة في مهدها قبل أن تستفحل. اللهم احفظ وطننا من كيد الكائدين، وامنع عنه الفتن ما ظهر منها وما بطن، واجعلنا دائماً حماة له بوعينا وولائنا.