د. زكريا الهوساوي..

مسيرتي مع طب الأطفال في المدينة المنورة.

تتميز هذه السيرة عن كثير من سير الأطباء الأخرى في أنها لم تجر في العاصمة، فإن أغلب الأطباء الذين يهتم الناس بسيرتهم يكونون ممن عمل في العواصم، بحكم انفراد العاصمة بتقديم خدمات صحية مميزة عن غيرها من المدن مما يجعلها قبلة طالبي العلاج، كما أن هذه السيرة الغنية هى سيرة الطبيب وسيرة الخدمات الطبية في المدينة المنورة أيضا، وقد بدأت عندما كان حال الخدمات الطبية شديد التواضع لدرجة أن وزير الصحة آنذاك (الدكتور غازي القصيبي) اعتكف يبكي في غرفته، مما رآه من بؤس الحال، ومن يومها بدأ صاحب السيرة عمله، ليصبح مؤسسا لمركز متقدم في علاج أمراض الدم وسرطاناتها، ورئيسا لقسم الأطفال، ثم مشرفا على تعليم وتدريب الأطباء في تخصص طب الأطفال. وقد مارس العمل في كل ما تتخيل أنه يمكن لطبيب أن يمارسه، مما أثرى السيرة بكثير مما يصعب أن تجده في سير أخرى، فما يكاد يجد فرصة لخدمة المجتمع أو خدمة المرضى إلا و يبادر في العمل من خلالها، طبيب أطفال، فُرض على مجتمعه تحدٍ، وهو تعويض النقص المفاجئ في عدد الذين يتعاملون مع أمراض الدم، في ظروف حرب الخليج، وجد نفسه في برنامج مكثف للتدريب على تقديم هذه الخدمة في مركز خارج العاصمة، أصبح رئيسا مؤسِسا للمركز، تحاشى أن يتفرغ للعمل الإداري الذي سيبعده بالتأكيد عن ممارسة الطب، لكنه شارك في معظم الأعباء الإدارية المصاحبة لممارسة التخصص الطبي بحكم الضرورة، شارك في إقامة الجمعيات الخيرية التى تقدم خدماتها لمن لا يستطيع الحصول عليها، شارك في الأنشطة المجتمعية لتوعية المجتمع عن أمراض الدم التى كانت منتشرة مثل فقر الدم المنجلي، وفقر دم البحر المتوسط (الثلاسيميا) ، والناعورية، شارك في أيام التوعية بهذه الأمراض وألف الكتب باللغة العربية للمرضى وأسرهم، وشارك في الأنشطة العالمية التي تقام خارج الحدود لتبادل الخبرة والتجربة والمعلومات، لم يتوقف عمله على المريض داخل المستشفى، يدعم عائلة المريض، ويخاطب الجهات الرسمية لتذليل الصعاب التى قد تواجه عائلاتهم، ويقدم لهم الخدمة الإجتماعية والمهنية، ويتواصل مع الجمعيات الخيرية لدعم عائلات المرضى غير القادرين، ثم لا  تنقضي متابعته بانتهاء فترة العلاج بل يحرص على التواصل معهم ومتابعة حضورهم في المجتمع، ويتخذ من حكايات نجاحهم ملهما للمرضى الآخرين. وعند التقاعد أعطى الكثير من الوقت للعمل التطوعي.  يرتبط الطب بمواصلة الطبيب رحلة التعلم، وتعليم الأطباء المبتدئين في مراحل دراستهم العالية، ثم البحث العلمي وهو أحد المناشط التى تفتقر لها مؤسساتنا الطبية، ولكن صاحب السيرة عمل وأجاد في كل ذلك، يحكي قصة أول بحث أنجزه وأرسله لمجلة الحوليات الطبية السعودية، رُفض البحث، وطلب أحد المحكمين أن لا يرسل إليه بحث لا يرتقي إلى احتمال النجاح، وطلب أن يُنصح صاحب البحث بالتفرغ لعمله الطبي، تقبل صاحبنا ذلك وعمل على تطوير نفسه، وعندما وجد زميلا لديه خبرة في إجراء البحوث الطبية تعاون معه في إعادة كتابة البحث، فنشر، ومن ثم واصل إجراء الأبحاث حتى أصبح محكما في نفس المجلة التي رفضت بحثه الأول. لا زالت دول منطقتنا متأخرة في البحث العلمي لدرجة أن دولة الكيان الصهيوني تتفوق علينا بكثير، وتجربة الدكتور زكريا تظهر أننا نستطيع مثلما استطاع، بالإرادة والجهد والعمل.   أصبح عضوا في الهيئة الطبية التى تتعامل مع ما يُسمى بالأخطاء الطبية، استنتج أن بعض الشكاوى تنشأ من الخلط عند الجمهور بين الخطأ الطبي والمضاعفات التى يمكن أن تحدث رغم كل الاحتياطات، كما أن ضعف التوثيق يؤدي إلى شكاوى أخرى.  وبحكم انتشار كليات الطب في أرجاء الوطن عمل في التدريس للطلبة في جامعة طيبة، ثم في الجامعات الخاصة، وبحكم الخبرة أصبح مستشارا في مشروعات إقامة المستشفيات وبرامج الرعاية الصحية ، وبرامج التثقيف الصحي، وإقامة المراكز التعليمية.  تدل تجربة صاحب السيرة على الإمكانيات الوفيرة على المستوى المحلي لإنتاج كفاءات متميزة في مجال الطب، فصاحب السيرة درس في جامعة الملك فيصل، وتدرب لطب الأطفال في مستشفى جامعة الملك سعود، وتدرب في مجال أمراض الدم في المستشفى التخصصي بالرياض، وفي فترة قيادته لبرنامج الزمالة العربية والسعودية في مركز عمله في المدينة حصل حوالي المائة من الأطباء على التخصص. وقد اعتدنا من قبل على أن يقضي الطبيب البارز جزءا من فترة تدريبه في إحدى الدول الغربية، وكما رأينا من هذه السيرة أن مجتمعاتنا تستطيع أن تنافس، ولها ميزة أنها تتعامل مع مشكلاتنا الصحية التى لا يمكن بسهولة إحراز خبرة عميقة في التعامل معها في المراكز الطبية الغربية.    تتميز هذه السيرة بالشفافية والصدق، ولد صاحبنا في منزل يقع في رباط عزت باشا، والأربطة كانت معروفة في بعض مدن الحجاز، تعتبر وقفا يسكن فيه من لا يستطيع أن يتدبر أمر سكنه، ويؤوي بعض المنقطعين ممن لم يعد لهم أهل أو لديهم أمراض تحتاج من يقوم بمساعدتهم فيتلقون المساعدة في الرباط، تضرر بيتهم في الرباط كثيرا بسبب المطر فانتقلوا إلى حي الدرويشية، أما الختان فأجري له في سن الخامسة على يد أشهر حلاقي المدينة. ، جده وأخو جده كانا ممن يمارس الطب الشعبي، وخاصة في تجبير الكسور، وقد أصيب بالقوباء وعولج بالطب الشعبي وبقي أثرها في فروة الرأس بعد الشفاء. والده كان يتيما، أسماه شيخه باسم “ محمد نساها” ، يعنى محمد الذي يسكن في الساحة بلغة قبائل الهوسا في نيجيريا حيث جذوره، كان والده مكافحا، بدأ عاملا ثم معلما في مجال البناء، وكان يمر في نهاية يومه على محلات الجزارة يأخذ ما بقي عندهم ليوزعه على القطط التى تلجأ إلى الرباط ، ولعل هذا ما زرع الرحمة بالمحتاج في قلب الابن منذ نعومة أظفاره. عمل في النجارة مبكرا ليساعد نفسه وأهله واستمر في ذلك حتى المرحلة الثانوية كما عمل مزوِرا أي دليلا يمر بالحجاج على أماكن الزيارة في المدينة، كالروضة الشريفة جبل أحد ومسجد القبلتين وقباء، وبعدها عمل صيفا في شركات المنطقة الشرقية.  بدأ يتعلم القرآن في سن مبكرة على يد الشيخة فاطمة برناوي عندما كان لا زال يسكن الرباط، رسب في السنة الرابعة الابتدائية، فزادته هذه التجربة جدية وإصرارا ليتفوق في المراحل التالية، تفوق في اللغة الإنجليزية تأثرا بأستاذه وكان من القليلين الذين نجحوا في المرحلة المبكرة في كلية الطب، الأكثرية أخفقوا وانسحبوا بسبب ضعفهم في اللغة الإنجليزية. وخلال سنوات التخصص أختير طالبا مثاليا ولكنه تفاجئ برسوبه في الامتحان النهائي، وكان عليه أن يعيده في السنة التالية فنجح. ومثل هذه التجربة يمر بها كثيرون من الأطباء. ولكن الحديث عنها محرج.   ولعل من سمات الوفاء ما يورده من أسماء كل زملائه الذين شاركوه في أي مرحلة دراسية أو مشروع عمل، وهو أمر غير معتاد في كتابة السير لكثرة تكرر الأسماء. وربما كان حرصا من الكاتب على عزو النجاح إلى عمل الفريق.   حكايات المرضى وعلاجهم شغلت جزءا مهما من الكتاب، وكل منها يمكن تحويلها إلى حلقة من برنامج سردي توثيقي تلفزيوني يفيد المجتمع ويشغل وسائل التواصل بالكثير مما يحمل كل عناصر الجاذبية والفائدة، ويحفز الأفراد والمجموع على العمل التطوعي والتوعوي. تشارك مع أحد الزملاء في الدعوة إلى إنشاء جمعية “المدينة المنورة لأمراض الدم الوراثية”. واستقطبا عددا من الزملاء المهتمين، حددت الجمعية أهدافها بتقديم المساعدات الطبية والاجتماعية والنفسية للمريض، وتقديم المساعدات المالية والعينية للمحتاجين من المرضى، وتعزيز الوعي الصحي بين المرضى وذويهم، والمساهمة في إجراء البحوث العلمية عن أمراض الدم الوراثية، وتقديم الدراسات والمشورة الصحية للقطاعات المختلفة، وتنظيم الندوات والمؤتمرات وتدريب العاملين، ونشر الوعي الصحي عن أمراض الدم الوراثية وطرق الوقاية منها، والمساهمة وتطوير مراكز العناية بأمراض الدم الوراثية.  نلاحظ هنا أن هذه المهمات ينوء بها أولو العزم من العاملين. امتد مجال العمل التوعوي ليشمل محافظات منطقة المدينة. من خلال الحملات وُجد ارتفاعٌ في نسبة مرضى الأنيميا المنجلية في خيبر مقارنة بباقي المحافظات، السبب كان في زواج الأقارب الحاملين للصفات الوراثية، ساهمت التوعية بخطورة المرض في تخفيض أعداد المواليد الجدد المصابين بهذا المرض، شملت حملة التوعية مأذوني الأنكحة الذي تفاعلوا وكانوا سببا في نجاح الحملة. و من شهر مارس عام ٢٠٢٣ و حتى نهاية عام ٢٠٢٤ لم يسجل أي مولود بالأنيميا المنجلية في محافظة خيبر. كذلك قامت الجمعية بتدريب بعض المرضى من الشباب بهدف تأهيلهم لسوق العمل والعمل على توظيفهم، اثنان منهم حصلا على البكالوريوس. أحد المرضى توقف عن استعمال الأدوية في سن الثامنة عشرة، وانعزل عن المجتمع، ولم يعد يتواصل مع والديه إلا بصعوبة ، وتبين أنه قرأ أن المرضى بهذا النوع من الأنيميا يموتون في سن العشرين، ولذا فلا داعٍ للاستمرار في العلاج، أقتنع الشاب بصعوبة بالتواصل مع الطبيب ،  خلال المقابلة تم تشجيعه على الاستمرار في العلاج وعدم اليأس و قدمت له نماذج عن العلاجات المتوفرة ونجاحاتها. بعدها تم تمويل حضوره مع مجموعة أخرى من المرضى اجتماع الاتحاد العالمي لمرضى فقر دم البحر الأبيض المتوسط المنعقد في أنطاكية التركية عام ٢٠١١ ، وهناك قابل عددا من المصابين بالمرض ممن بلغت أعمارهم الخمسين ولا زالوا بصحة جيدة ويشغلون مواقع عملية مهمة، تغيرت نفسية الرجل، فدرس اللغة الإنجليزية وأصبح ناجحا في تقديم التوعية الصحية للمرضى، وعضوا في مجلس إدارة الجمعية وممثلا للمملكة لدى الاتحاد العالمي لمرض أنيميا البحر المتوسط. وهناك أمثلة كثيرة حافلة لا شك أنها قد اسعدت الدكتور وستسعد القارئ أيضا.        إخراج الكتاب جميل على المستوى الفني، وهذا من فوائد إيكال العمل إلى متخصص في التحرير، والكتاب مدعم بالصور، وفيه صور مهمة تم توليدها بمهارات الذكاء الصناعي. بارك الله في الدكتور وفي العاملين الحالمين مثله.