
حين قال الفيلسوف مارتن هايدغر: «لا يتحدّث الشاعر عن القصيدة أو حولها، إنه يكتبها»، كان يختزل حكمة جوهرية عن سرّ الإبداع. فالمبدع الحقيقي لا ينشغل بتمجيد إنتاجه أو تفكيكه بغرور، بل ينغمس في عملية الكتابة ذاتها، مُحرّراً القصيدة لتعبّر عن نفسها بلا وساطة. على النقيض، يهدر بعض الشعراء طاقتهم في فرض نصوصهم وكأنها تحفة لا تُدرك، فيتحدثون عن «توظيفهم للأسطورة» أو «حياكة الرمز» محاولين تمرير قراءتهم على جلسائهم أو القراء. هذا السلوك ليس سوى دليل على إفلاس إبداعي، ينمّ عن شاعر استنفد قاموسه الشعري. فراغ داخلي. إن الإصرار على ترويج العمل الأدبي قد يكون محاولة لسدّ فراغٍ خفي، ذلك أن الإبداع الأصيل لا يحتاج إلى تمجيد؛ فالقصيدة القويّة تحمل في بنائها لغتها الخاصة، وتصنع حواراً مع القارئ دون حاجة إلى سماسرة. حين يتحوّل الكاتب إلى مُعلّقٍ متعجرف على نصه، فهو يُهين ذكاء متلقّيه، مفترضاً أن النص عاجز عن الكلام بمفرده. هذا الغرور يُشير إلى انطفاء الجمرة الإبداعية التي لا تُختزل بالكلمات، بل تُشعلها الكتابة المستمرة. درويش: درس في التجرّد. يُقدّم محمود درويش (1941-2008) نموذجاً للتواضع الإبداعي حين أطلق على ديوانه السابع اسم «محاولة رقم 7». فالشاعر الذي بلغ ذروة المجد يرى إبداعاته السابقة مجرد مسودّات في رحلة لا تنتهي. هذا التجرّد يصطدم مع نقيضه: شعراء مبتدئين تراهم يتعاملون مع كلماتهم كأنها صكوك خلود. درويش، بصمته وانشغاله بالكتابة، يؤكّد أن الشاعر الحق لا يبني حضوره من الكلام، بل من النصوص التي تخلق مسارها بنفسها. إرث المبدعين الخالدين. يتجلّى في التاريخ نماذج لمبدعين آثروا الصمت، فخلّدت أعمالهم أسماءهم. الشاعرة إميلي ديكنسون (1830-1886)، التي عاشت في عزلة، لم تُنشر إلا نصوصاً قليلة في حياتها، لكن ما يزيد عن ألف قصيدة من كتاباتها وُجدت بعد رحيلها، لتصبح اليوم أيقونة أدبية عالمية. لم تثرثر ديكنسون عن فلسفتها الشعرية، بل كتبت بتركيز مدهش، فكان صمتها جزءاً من بلاغة نصوصها. في الفن، يُذكر فان غوخ (1853-1890) الذي عانى الفقر والإهمال، ورسم لوحاته دون ادّعاء. لم يتحدّث عن تقنياته أو رمزية ألوانه، بيد أن أعماله مثل «ليلة النجوم» حوّلت معاناته إلى تراث إنساني. كذلك فرانز كافكا، (1883-1924) الذي لم يرَ في كتاباته سوى محاولات ناقصة، وطلب إتلافها قبل موته. لولا عصيان صديقه ماكس برود لأمره، لما عرف العالم روايات مثل «المحاكمة»، التي حوّلت شكوك كافكا الشخصية إلى علامة أدبية فريدة. حين يصبح الحوار جسراً. لا يعني هذا أن على المبدع التزام الصمت المُطلق، فالجدل المتنور حول الأدب قد يثري التجربة الإبداعية. لكن الخطر يكمن في تحوّل الكلام إلى أداة للترويج الذاتي أو التباهي، ذلك أن من يسعى لتسويق قصيدته أو عمله بأي وسيلة تمتهن كرامة الشعر، لإثبات تفوّقه، يفقد القدرة على استشعار جوهر الشعر، ويفشل في القبض على جمرته الغامضة. زمن الوسائط. في عصر الوسائط الرقمية، حيث تُغرِي المنصات بتحويل كلّ فكرة إلى «منشور»، يزداد تحدّي الحفاظ على لباب الإبداع. هنا يبرز درس درويش للشباب: الكتابة ليست سباقاً للظهور، بل مسيرة تطلب صبر الحرفيين. فالتألّق الحقيقي لا يُقاس بعدد التعليقات، بل بقدرة النصّ على خلق عالمه الخاص. المجد للصامتين. أمامنا خياران: إمّا أن ننصت لصمت المبدعين العظماء، أو نغرق في ضجيج المفلسين. ديكنسون، فان غوخ، وكافكا لم يحتاجوا إلى خطبٍ وثرثرة لفرض مكانتهم؛ فإبداعاتهم حوّلت صمتهم إلى صوتٍ دائم. أما من يصرخون ليُثبتوا أن كلّ قصيدة لهم هي «تحفة فريدة»، فقد يكتشفون لاحقاً أن التاريخ لا يخلّد إلا من يكتبون بحبر التواضع، لا بزيف الكبرياء.