الروائية التي حَمَتها الوحدة من الخطابات النسوية الحادة..

أميمة الخميس: تجربتي الأدبية كانت تيَّارًا متدفقًا ينازعني وقتي وتركيزي.

على مدى أربعة عقود، قدّمت أميمة الخميس إسهامات لافتة في القصة القصيرة والرواية والمقالة الصحفية وأدب الطفل، إلى جانب حضورها التربوي والثقافي. وقد أصدرت أعمالًا بارزة مثل البحريات، الوارفة، مسرى الغرانيق في مدن العقيق، وصولًا إلى روايتها الأخيرة عمة آل مشرق التي وصفتها بأنها كتبتها من “الضفة المقابلة” في محاولة لاستعادة سردية المكان وإضاءة ذاكرة شبه غائبة. وتصف الخميس مسيرتها الأدبية بأنها «تيار متدفق» التهم وقتها وملأ حياتها منذ «لثغات الأحرف وبواكير المفردات»، مؤكدة أن العائلة شكّلت السند الحامي الذي مكّنها من الالتزام بمواعيدها الصارمة مع الكتابة، تلك التي تسميها “السيدة المستبدة”. وفي هذا الحوار، الذي تنشره اليمامة ضمن ملفات «شرفات» الخاصة،احتفاءً بتجربتها، تفتح أميمة الخميس قلبها وذاكرتها لتضيء محطات مسيرتها بين النشأة في بيت يتنفس الثقافة، والمغامرات الأولى في شوارع الرياض، وصولًا إلى تأمل التحولات الكبرى التي يشهدها الوطن، وما تبقى من “بطانتها الثمينة” بعد هذا المشوار الطويل. تيار متدفق وليس محطات *بالنظر إلى تجربتك المتنوعة التي تشمل القصة القصيرة، الرواية، الكتابة الصحفية، العمل التربوي والثقافي، ما هي أبرز المحطات التي شكلت شخصيتك الثقافية والأدبية؟ وكيف تقيمين رحلتك الثقافية والإبداعية بعد نحو أربعين عامًا من العطاء والإنجاز في هذه المجالات المتعددة؟ -لم أعشها محطات، بقدر ما كانت تيارا متدفقا مندفعا ينازعني وقتي وتركيزي منذ لثغات الأحرف، وبواكير المفردات، وقتها كنت بدأت أنصت لحفيف حديقة سرية بين ضلوعي، وبت أحتاج أن أتقصى ملامحها، وأعثر على دربها. وعندما وصلت بوابتها التقمتني وأقصتني عن محيطي، واستحوذت علي، وباتت مهمتي كيف أصمت العالم حولي لأقرأ وأكتب، أو التقى بناس قد شغفتهم الكتابة حبا. في المدرسة لم ترق لي الكتب التي كنت أطلع عليها مقابل كنوز المنزل، وفي الجامعة كانت هناك ومضات وانفراجات وجدتها مع أساتذة قامات شاهقة في قسم اللغة العربية د. منصور الحازمي، د. مرزوق بن تنباك، د. حسن ظاظا، د. سعاد المانع، ود. شكري عياد. ومضيت اثناء عملي في التدريس وفي الإعلام التربوي، أتحين فرجات الوقت، والمساحات اليسيرة التي يقطرها الوقت على زوجة عاملة فوق حجرها عدة أطفال، تخشى أن تطمس المسؤوليات والمهام ملامحها وتقصيها عن حديقتها السرية. الينبوع الأول وبواكير الكلام *أميمة الخميس هي ابنة بيت ثقافي عريق. الوالد عبدالله بن خميس أحد رواد الثقافة والصحافة في المملكة، والوالدة هي سهام السرحي من أوائل من كتب وأشرف على صفحات المرأة في صحافتنا المحلية. كيف انعكست اجواء هذا البيت المليء بالكتب والصحف والعامر بأمسيات والديك تحت شجرة الياسمين، كيف أسهمت تلك البيئة في تكوين وعيك الثقافي والأدبي المبكر؟ -الينبوع الأول وبواكير الكلام، عندما تسبح أبيات الشعر في فضاء المنزل، والجدران تتسابق هي وأرفف الكتب على الوصول للسقف بينما يكون حلمي هو الوصول لكتب الصف الأعلى، لأقضمه بلهفة. لم يكن هناك ارتباك البدايات أو ارتياب الخطوات الأولى، وكنت أظن أن بيوت الناس جميعا هكذا، واحتاج الأمر مني وقتا طويلا لمعرفة بأنه أمر ليس نادر فقط، بل أيضا ثمين وملهم. الطوفان اللغوي الفاخر *نشأتِ بين مكتبتين مختلفتي المذاق: مكتبة والدكِ المكتنزة بالثقافة التراثية، ومكتبة والدتكِ المنفتحة على الأدب العالمي، ثم جاء احتكاككِ بالملاحق الثقافية والشعر الحديث ليفتح لك باب “لعبة اللغة”. كيف أسهم هذا التنوع في تشكيل لغتكِ الروائية، وكيف توفقين بين المفردة المعجمية العريقة واللغة المدهشة المحدثة دون أن تطغى إحداهما على الأخرى؟ -لربما بحكم التصاقي بوالدتي يرحمها الله، وحيدتها بين ثلاثة أخوان ذكور، فأشرعت لي مكتبتها الغناء حتى أقصاها، والتي لا تتضمن جميع فرائد الكتب والروايات العربية ومترجمات الأدب العالمي القادمة من بيروت فقط، بل أيضا المجلات الصادرة هناك مثل مجلة الوطن العربي، الحوادث التي كانت تكتب صفحتها الأخيرة غادة السمان، اليوم السابع والتي كان يكتب فيها محمود درويش، والتي كان يوفرها لها خالي محمد. والصحف التي كانت تصل منزلنا الرياض/ الجزيرة / ومجلة اليمامة، وجريدة الحياة التي كان يكتب بها أدونيس الثقافة الكلاسيكية حينما واربت باب مكتبة الوالد في مراحل عمرية لاحقة انهمر علي الطوفان اللغوي الفاخر، صعدت بي أمواجه لقمم شاهقة حطت بي في قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود. ولن أغفل هنا ما كنت التقطه في يومياتي من جماليات الشعر الشعبي من الأحاديث (السواليف) والمسامرات، فشعب جزيرة العرب يمارس الشعر بموازاة الكلام. هذه الواحات كانت مهادي وينبوعي الذي ما برح يرطب عروقي إلى اليوم. الخطابات النسوية المفرطة *حدثينا عن تلك الفتاة التي كان إخوتها الذكور يقصدون مجلس والدهم الثقافي ويشاركونه رحلاته، بينما كانت، بوصفها امرأة، قصية بين دفتي كتاب تغني وحيدة وتنسج أحلامها الأدبية. كيف أسهمت هذه التجارب في تشكيل وعيك السردي وحساسيتك تجاه قضايا الهوية؟ وكيف انعكس ذلك في رسمك لشخصياتك النسائية وعلاقتها بالمكان في أعمالك الروائية؟ -تلك البلورة التي صنعتها القراءة، منحتني مناعة ضد الوحشة والوحدة، حمتني من التعلق المرضي بالأشخاص والأمكنة، مررت لي خرائط لبلدان أحلم أن أزورها، ومتاحف لابد أن ارتادها، وأفلام لابد من مشاهدتها، وموسيقى لابد من الإنصات لها. وأيضا حمتني من الخطابات النسوية المفرطة في حدتها، وعلمتني كيف أنسج من خيوط الخيبات أجنحة الحرية. الفتاة التي تلثمت بشماغ *ما بين “أميمة”، الفتاة التي قررت، بشجاعة وفضول، التنكر في ملابس الرجال مع صديقتها لاختبار حرية التنقل، وهو أمر كان شبه مستحيل آنذاك، وبين “أميمة” المرأة التي تتجول اليوم في شوارع الرياض بحرية، تقود سيارتها وتستخدم الميترو، كيف تصفين هذا التحول الاجتماعي الكبير الذي شهده المجتمع السعودي؟ هل كانت تلك الفتاة الصغيرة تتخيل هذه النقلة؟ وكيف تنظرين إلى هذا التغيير في ضوء تجربتك الشخصية؟ -التاريخ حذق في تحقيق غاياته، والمرحلية وتهيئة التربة بالمخصبات هو شرط نجاح المشاريع الوجودية الكبرى. فالفتاة التي واربت لها الدولة الباب لتمرق نحو الصف والسبورة بحماية البنادق، هي جدة الفتاة التي تشغل الآن منصب رئيسة جامعة ورئيسا تنفيذيا لكبرى الشركات. بينما الفتاة التي تلثمت بشماغ وأطلت على الدرب خلسة، انتبذت مكانا قصيا وقررت أن تحكي هذه السردية. عائلة راعية ومتفهمة *وأنا أُحضّر لهذا الحوار وقعتُ على كلمتك التي ألقيتها عند تسلمك جائزة نجيب محفوظ، ولاحظتُ أن حضور العائلة كان طاغياً فيها، ابتداءً من والدَيْكِ رحمهما الله، مروراً بزوجك وأبنائك. ربما تحدثنا سابقاً عن الوالدين، لكن جانب الزوج والأبناء قلّما يُستعرض في الحوارات الأدبية. كيف شكّل هذا الدعم العائلي المتواصل، رغم ما صاحب مسيرتك من عقبات، حجر الأساس في تجربتك الثقافية؟ وهل هناك من بين أبنائك من لديه ميول ادبية؟ -الكتابة هو مشروع مهيمن مستبد يحتل مساحات كبيرة من حياة صاحبه.. إن لم يكن جلها، ولذا لولا وجود عائلة راعية ومتفهمة، ما كان لهذا أن يتحقق، أيضا وجود العاملات المنزليات حررني من الكثير من المسؤوليات المستنزفة، وما كان مشروعي الأدبي ممكنا دون أيديهن الرشيقة الحذقة. طبعا كنت في كثير من الأوقات اضطر للاعتذار عن الكثير من الواجبات العائلية والمهام الاجتماعية، إرضاء لمواقيت صارمة سنتها (سيدة البلاط) الكتابة. واجهت شراسة وقمعا *أنتِ واحدة من أبرز الكاتبات اللاتي تصدين لقضايا المرأة والمجتمع في الصحافة المحلية من خلال مقالاتك اليومية، وكذلك من خلال عملك في التعليم ونشاطك الثقافي، ومشاركتك في الفعاليات الثقافية والمحافل الدولية. وربما لايعلم الكثير عن الصعوبات التي واجهتيها في عملك وحياتك، خصوصًا وأنك كنت تطرقين أبوابًا ملتبسة أو ذات حساسية ما؟ كيف استطعتِ مقارعة الأفكار المتشددة؟ ما هي أبرز الصعوبات التي واجهتكِ كامرأة تحاول تعزيز حضورها في الفضاء العام الثقافي والاجتماعي في وقت كان صوت المرأة يواجه فيه العديد من التحديات؟ -لن يوازي ما قدمته ما قام به طلائع التنوير في هذا الوطن عندما قدحوا شعلة الضوء وطالبوا بتمهيد الطرق لتعليم المرأة، فهي خطوة شاهقة جبارة أسست مكانا ثالثا تقصده المرأة بين ثنائية المهد واللحد ولاحقا ما كنت أحاوله هو سعي لتفكيك خطاب كراهية متعنصر ضد المرأة وتمكينها، ابتدأ من الأحكام الشرعية التي يسيطر عليها الفقه الذكوري، إلى حجبها وكفكفتها عن الفضاء العام، وعرقلة مسيرتها وتمكينها كشريك أساس في بطولات وملاحم التنمية. عموما لم يكن هذا يسيرا دوما، وتعرضت لردود فعل شرسة وقامعة، لكن الطوق العائلي الحامي الداعم كان دوما يقف حولي ودوني. وأهم أمر في هذا كله هو إرادة سياسية قوية سعت لإدراج المواطنات كشريك أولي في المسيرة. مغامرة لغوية *في كتابكِ المشترك مع الشاعرة الكبيرة فوزية أبو خالد «ألف صباح وصباح»، هل كانت كتابتكِ فيه امتدادًا لميول شعرية قديمة لديكِ، أم مغامرة لغوية جديدة أطلقتها صداقتكِ بفوزية؟ وكيف انعكست هذه التجربة على علاقتكِ باللغة، مقارنة بما تعيشينه داخل عوالم الرواية؟ -الكتاب هو مغامرة لغوية، أحببت فيه اللعب بالمفردات، فلطالما تبدت لي المفردات كالكرات الزجاجية التي كنا ندحرجها صغارا. قصص شحبت ونضبت *لك حضور واضح في أدب الطفل من خلال أعمالك مثل ‘حديقة الطلح’ و’سارق اللون’. كيف تصفين تجربتك في هذا المجال، وكيف ترين اليوم تطور إنتاج أدب الطفل العربي وقدرته على مواكبة تطلعات الأطفال في عصر التقنية؟ -ارتبطت هذه المرحلة بطفولة أبنائي، كنت أحرص جدا وأفعل ما بوسعي لربطهم بالكتاب، وأجعل لهم مكتبات صغيرة بجوار أسرتهم، أيضا كنا نقرأ سويا قصص ما قبل النوم، وفي تلك الخمائل المشتركة نبتت قصص الأطفال، نتشارك رسم شخوصها وتخيلها، داخل عوالم الخيال الطفولي الساحر، حيث كل شيء يتكلم ويسير ويرسم أقداره. العجيب أن تلك القصص شحبت ونضبت فجأة بعد تجاوزهم سن الطفولة، ولا أدري لعلها تعود كرة أخرى مع الأحفاد. تجربة سينمائية مخيبة *في ظل الاهتمام المتزايد بتحويل الروايات المحلية إلى مسلسلات وأفلام، يتحدث النقاد والمتابعون عن جدارة أعمالك الروائية بهذا التحول، والذي عرفناه ان هناك العديد من العروض المقدمة لك لتحويل رواياتك إلى أعمال درامية. هل من جديد في هذا الملف؟ وما الذي يجعلك مترددة حتى الآن في منح الموافقة على هذه المشاريع؟ -مررت بتجربة مخيبة ومحبطة حيث وظفت إحدى رواياتي بشكل بدائي وضحل فنيا، لذا فأنا حذرة جدا في هذا المجال، ولعل الأيام القادمة تحمل لنا مفاجأة جميلة. عمة آل مشرق *لا يمكن أن ننهي هذا الحوار من دون أن نتطرق إلى رواية «عمة آل مشرق» التي أثارت اهتمامًا كبيرًا منذ صدورها وحتى الآن. هل يمكن القول إنها الرواية التي كنتِ تطمحين إلى كتابتها؟ كيف تصفين تجربتك في هذه الرواية؟ وما هي أبرز التحديات التي واجهتكِ، خصوصًا في جمع المادة التاريخية؟ -بعد انتقال الخلافة إلى الشام والعراق، شح النتاج الفكري والأدبي في حواضر الجزيرة العربية، ولم يبق سوى بقع ضوء متفرقة منها الديار المقدسة، ولكن هذا لا يعني انتفاء الفعل الحضاري والاشتغالات الإبداعية لسكان المكان، ولكنها ظلت محاصرة بالشفوية وندرة التدوين. ومع بداية التأسيس في العصر الحديث، وتجاوز مرحلة الشتات والتحزب القبلي، وتبلور الأسس الواضحة للدولة المركزية القوية بدأ المكان يحاول أن يسترجع ذاكرته، ويسترد سرديته المتوارية تحت رمال الإهمال والنسيان. ويتصل بإرثه العريق من ممالك شغلت هذا المكان من عهود سحيقة تعود لمرحلة ما قبل التاريخ. وإن كان مزيد الحنفي بطل رواية مسرى الغرانيق في مدن العقيق قد انطلق من اليمامة قي القرن الرابع الهجري، فإن اليمامة نفسها باتت منطقة جاذبة للآخر في القرن العشرين في رواية (عمة آل مشرق)، عبر إرسالية تبشيرية تمارس الطب. تستميت لتصل إلى الرياض، وتنقل للعالم سرديتها الخاصة. مقابل منظور يعكس الإرث الغزير المسكوت عنه للمكان، واستقطاب الضوء نحوه، والاستثمار في جماليته اللامتناهية. حقول جديدة للبذار *في ظل التحولات الثقافية الكبيرة في المملكة، ما الذي تأملين تحقيقه ككاتبة ضمن هذا الحراك الكبير؟ -ابتهجنا بحقول الأحلام وهي تربع وتزهر حولنا، قفزة شاهقة إلى الأمام، بات الجميع يحلم بأن يكون جزءا يسيرا من هذه المسيرة الجليلة، التي اهتزت وربت من تحت الرمال وشمخت نحو السماء. أحيانا أود أن أتقهقر وأرقب المشهد باستمتاع وصمت، وأحيانا أخرى أذكر بأن مرويتنا الغائبة بحاجة للكثير من القصص والحكايات... لذا أنهض وألملم حروفي، بحثا عن حقول جديدة للبذار. ذهب الشك والقلق *أخيرًا، وبعد هذا المشوار الثقافي والابداعي الحافل والممتد حتى الآن، ما الذي ذهب وما الذي بقي؟ -ذهب الشك، والقلق، وغربان الخيبة، وسراب المسرات .... وبقيت أنا وبطانتي الثمينة.