ذاكرة امرأة من الربع الخالي..

من الجوع إلى الحياة الرغيدة.

في الربع الخالي الذي هو ليس بخالٍ بالفعل، بل تسكنه مجموعة من الناس نذروا أنفسهم لحياة البداوة حيث يعدّهم من لم يعاشرهم من أهل المدن والقرى أبناء الجن، ولدت أنا على امتداد رمال الجافورة بالقرب من بئر تسمى أبواب، عرفت لاحقا أنها تقع في شمال الساحل الشرقي بين جوده والرياض، نحن الذين نولد على الآبار، ونرتحل بحثًا عنها، وندفن بالقرب منها، الآبار هي شريان حياة البدوي وراحلته، هي الوقود المحرك لثروته الطبيعية التي يحملها معه أينما حلّ و ارتحل .. من أجل البقاء على قيد الحياة في تلك البيئة القاحلة، يجب على البشر هناك أن يعيشوا في حالة تناغم مستمرة مع مصدر ثروتهم الوحيد المتنقل وهو الإبل، حيث يعتمد كل منهم على الآخر من أجل البقاء على قيد الحياة، فالإبل توفّر الطعام واللباس ووسيلة التنقل، بينما يوفّر لها البدوي الموارد المتاحة، وهي: الماء والعشب. كنت أكبر إخوتي، الذين أذكرهم والذين لا أذكرهم، فقد اعتدت على رؤية القبور الصغيرة وأمي تكفكف دموعها، وتهيل التراب عليها صامتة؛ أحدهم قتلته الحمّى، والآخر كان يلاعبني، ويجري معي قتله الغَبِيْب (الأكل البائت)، لا نجد الأكل يوميًّا، حينما نجده ونخزنه يقتلنا. كان طعامنا تمرات معدودة لها رائحة حامضة، ولون أسود، لا يشبهه شيء، لشدّة حلاوتها التي لازلت أجد طعمها في حلقي، وتخبز لنا أمّي الخبز المطحون برحاها الحجرية الضخمة، استيقظ صباحًا على صوت صخرتي الرّحى، وهي تطحن الحَبّ، بصوت رتيب متناغم يرافقه أحيانًا أهازيج أمّي البسيطة .. جَهيِّر يازُبْدَة رَبِيْع .. ومطلقة الأربع جميع .. بعد أن أتناول حصتي البسيطة من الخبزة المشويّة على الحطب المرمد، وبضع تمرات أنطلق لأداء مهامّي الصباحية (أسرح مع إبل والدي) يخبرني والدي بالوجهة التي يتعين عليّ الاتجاه إليها، وأسرح معها صباحًا إلى المفلى، وهي المنطقة ذات الأعشاب النظيفة، وقد أعود مع حلول المساء، وقد لا أعود، حينها أكون قد أضعت دربي، وبتّ ليلاً مع الإبل، ولشدّة البرد كنت أستلقي بجانب بعيري (صلفان) لأشعر بدفئه، وحمايته بانتظار أن يبحث عني والدي صباحًا ويعيدني، بعد أن يقصّ أثري، ويعرف أين اتجهت. كنت في السادسة من عمري طفلة جائعة وخائفة ومشتاقة لأمي، ولكنها واجباتي كطفلة بكر لم تُرزق بإخوة يحملون عنها هذا العناء. حين أروي قصّتي قد يتبادر إلى الذهن تساؤل بسيط .. أين أبي؟ والجواب: يستيقظ أبي فجرًا قبل بزوغ الشمس، يرفع صوت الآذان عاليًا في الأرجاء، يصلي الفجر، ويحمل عصاه، ويركب راحلته يسافر ويغيب عنّا بالأيام والليالي، ثم يعود إلينا محملاً بمختلف الأطايب من بلح وأرز وحبوب الهال، وأقمشة ذات ألوان بديعة نخبّئها حتى يقترب العيد، فتخيطها لي أمّي ثوب (أرناق)، وهو ثوب تجري خياطته يدويًّا يحمل بقايا الأقمشة التي تُخاط بجانب بعضها بعضا لتعطي ألوانا بديعة تسلب الأنفاس في وسط رتابة وجمود الصحراء التي نسكنها وتسكننا. هذا في حال السّلم، أما في حال الغزو فكان أبي يعتمر عمامته، ويرتدي جنبيته، ويحمل بندقيته، ويتجه غالبًا لاستعادة ما نهب من إبله، أو حلاله، فقد قيل قديمًا (اقتل المريّ ولا تسرق بعيره).وعندما يأتي العيد كنت أرتدي ما خاطته أمّي لي، وأغسل شعري بسدر وماء، واصطفّ مع بنات (المقطع)، وهن بنات أفراد القبيلة اللاتي يعشن بالقرب منا، ونبدأ بالرقص على أصوات أهازيج الرجال الغزلية، وأهازيج الفخر والتي تنحدر بالأساس من حداءات الإبل. يانَدِيْبِيْ فوق درعيّة زينة مَسِيرٍ وقَوْرَاني نصه هل الحصحصيّة ربع في اللِّقَا ظَفْرَاني أما دور أمّي فهو كسائر أدوار نساء البادية، تتصف المرأة البدوية بمجموعة من الصفات التي ساعدتها على التّكيف مع بيئتها الصحراوية، فهي كما تصوّرها الحكايات الشعبية صبور عاطفية، مطيعة، مضحية، ذكية، وحكيمة، ولقسوة الحياة البدوية أثر في شخصية المرأة التي تستمد مكانتها من نسبها وأصلها، وامتازت على الدوام بدور فاعل ومكانة مرموقة في المجتمع، وقد احتلّت مكانة مهمة في النشاطات الاقتصادية والإنتاجية، كما أن إسهاماتها في تأمين احتياجات الأسرة منحتها شعوراً بالاستقلالية والإحساس بالقيمة، مما زاد من ثقتها بنفسها، وعدم الاعتماد على الآخرين، وكل ذلك دفعها للاستمرار في وتيرة عالية من النشاط والحفاظ على العادات والتقاليد البدوية الأصيلة. أمّي هي الجندي المجهول، تبني بيت الشعر لوحدها، ذلك البيت المكوّن من بيت منسوج بواسط واحد (عمود) في الوسط، وعمود آخر في الأمام يقسمه إلى شقين، هذا البيت الذي تبنيه أمّي وتطويه في حلّنا وترحالنا، صنعته بيديها بخيوط الغزل والمطرق، وهي حرفة نسائية متوارثة منذ الأبد، ثم تطحن الحب، وقد تغزل السدو، وهو المكوّن الأساسي والجمالي لبيتنا، تخيط ثيابنا وثياب أبي، تجمع الحطب من المناطق القريبة، وتعدّ العدة لاستقبالنا عند العودة في المساء، وفي حال نضوب الأرض تطوي أمي بيتنا لوحدها، ثم تربطه على الراحلة، وتجمع مكونات حياتنا البسيطة، ونرتحل على دوابنا بحثًا عن أرض جديدة، وبئر جديدة مليئة بالماء والوعود الخضراء. في طفولتي وضعتني أمّي في الميْزَب، وعلّقتني على واسط (عمود) البيت بالقرب من أبي وضيوفه، ومضت في شأن لها، كان أبي يطعم ضيوفه لبن الخلفات والتمر، فقال ممازحًا لهم من يُسْكِتْ هذه الطفلة زوجته إيّاها حينما تكبر، فقفز أحد الشباب، وأسقاني شربة من اللبن أسكتتني، وبعد خمسة عشر عامًا كنت زوجة له، الكلمات في الصحراء حادة كالنصل وثابتة كالعرف. بعد زواجي الذي تم على الطريقة التقليدية البسيطة، عدت ليلاً مع إبلي أخبرتني أمّي بأني سأتزوج، وَضَعَت بعض السِّدْر والحنّاء على شعري، وألبستني عباءة مزركشة، وصنعت لي شِقًّا (جزء صغير محجوب) بسيطًا مظلمًا في طرف بيت الشعر، أصبحت بعدها زوجًا لذلك الرجل الذي أخذني بعيدًا عن حياة الصحراء. سافرت مع زوجي إلى مسكني الجديد، كانت مدة سفرنا ثلاثة أيام، اليوم الأول ركبنا الرواحل حتى وصلنا إلى مدينة الأحساء، ومن الأحساء انطلقنا في سيارة حمراء كبيرة مُحَمَّلِينْ بأغراضنا متلاصقين في صحن السيارة الواسع، حتى وصلنا إلى محطة صغيرة تسمى بقيق حيث استقبلنا بعض الأقارب الذين يسكنون أعشاش صغيرة، وتولوا إيصالنا إلى وجهتنا الأخيرة وهي مصفاة الزيت في راس تنورة. فجأة وجدت نفسي أنا الطفلة البدوية ابنة الصحراء أقف أمام كائن عظيم يموج اسمه: البحر، كنا نسكن في صنادق (مفردها صندقة باللهجة العامية) صغيرة من ألواح الشينكو والخشب، تصطفّ بيوتنا بجانب بعضها بعضا بعشوائية كئيبة، خائفة من كل شيء، من الأصوات والروائح واللهجات والطيارات والسيارات والأمواج. أقضي النهار وحيدة بانتظار أن يعود زوجي آخر المساء محملاً بأصناف من الأطعمة لم أرها من قبل، ولا أعرف كيف أطبخها.. عاصرت في حياتي تحولات كبيرة وعظيمة، كنت ألد أطفالي في مستشفى أرامكو الأمريكي (جون هوبكنز) في الوقت الذي يلدن قريناتي أبناءهن في الصحراء، ركبت الباص والسيارة والطائرة والقطار، واستخدمت الثلاجة والتكييف في الوقت الذي كانت عائلتي تنام على تراب الصحراء، ولا تستبدله بأي أرض أو سماء. محوت الأمية، وأدخلت بناتي وأبناءي للمدارس، وتمسّكت بهذه الحياة الرغيدة، ونقلت بعض منافعها لعائلتي التي بدأت أخيرًا تستوطن الهِجر، وتنبذ معيشة الصحراء، وتنتقل من حياة التنقّل إلى حياة الاستقرار والمدنية. هذا التغير والتطور الذي لازمني في مسيرة حياتي لم يَمَحُ هويّتي، ولا لهجتي، ولا برقعي، هذا التغير منحني القوة، ومنحته الأصالة، ومنحت للوطن أبناء مخلصين ذوي علم وأدب يحملون رايته، ويكمّلون ما بدأه الأجداد بثقافة الأحفاد ..