
1 لستُ أدري لماذا يتلذذُ كثيرٌ من الشعراء العرب الكبار بهجاء بعضهم بعضًا ؟ ..ما أنْ يسألُ صحفيٌّ مدجَّجٌ بالإثارةِ « أحدَهم « عن منجزِ شاعرٍ آخر له البريق نفسه والصيت عينه حتى يسارعَ بحماسٍ منقطع النظير إلى تدبيجِ هجائياتٍ قاسيةٍ يهدفُ بها الحَطَّ من قيمةِ نظيرِهِ الشاعرِ المنافسِ الذي عادةً ما يكونُ منتميًا للجيلِ نفسِهِ الذي ينتمي إليه وحاملًا مصباحَ التجديدِ ذاتِهِ ومُثْقِلًا كتفيه بالهمِّ الذي يثقلُ كاهلَ سواه ممن ينالُ منهم ويمعنُ في هجائهم. مثلًا ، كان الشاعر عبدالوهاب البياتي يشتمُ الجميعَ تقريبًا ولا يُوَفِّرُ أحدًا ، ولا يتورعُ عن نسفِ تجاربِ الآخرين نسفًا يكادُ يكونُ اجتثاثيًّا مهما كانت تلك التجاربُ أصيلةً وعميقةً وجادَّةً وصادقةً ومثمرةً ومؤثرةً وذاتَ إضافاتٍ ملموسةٍ إذْ تضيفُ وردًا انيقًا إلى حديقة الشعر العربي الحديث..لقد كان قاموسُ هجائه مفتوحًا على المفردات المدببة والقاتمة بها يزدري كلَّ شاعرٍ سواه ، فهذا تافهٌ وذاك طاووسٌ وثالثٌ ليس شاعرًا على الإطلاق ورابعٌ يصفه بأنه « شاعرٌ إسرائيليٌّ مدلَّلٌ « - وهذا الوصفُ تحديدًا خَصَّ به الشاعرَ الفلسطينيَّ الكبيرَ محمود درويش ! وفي هذا السياق أذكرُ أننا سهرنا ذات ليلةٍ على ضوءِ يديه في « جدَّة « ، في بيت الصديق المترجم والناقد فايز أبَّا بعد محاضرةٍ له في النادي الأدبيِّ ، وكُنَّا نُمَنِّي النفسَ بسهرةٍ عظيمةٍ مليئةٍ بالشعرِ والثقافةِ والمحبّةِ و الجمال لكنَّ السيد البياتي حَوَّلها إلى حفلةِ هجاءٍ وكراهيةٍ وذَمٍّ وقدحٍ في الشعراءِ الذين يراهم ذبابًا فيما يرى نفسَهُ فيلًا ، وأنفقَ الليلَ كُلَّهُ وهو يردّدُ شعارًا تافهًا لا يخلو من نرجسيةٍ ، هكذا : « أنا ناتف ريش الطواويس « ، رغم أنه هو نفسُهُ كان طاووسًا هَرِمًا يستحقُّ أنْ يجدَ مَنْ ينتفُ له ريشَهُ الملوَّنَ الكثيرَ حتى يعودَ غرابًا.. على أيِّ حال- وياللأسف الشديد - استمرَّتْ هذه السهرةُ القاحلةُ أو الحفلةُ المليئةُ بالشتائمِ والبذاءاتِ والتشاوُفِ حتى مطلعِ الفجر. ليس البياتي وحده الذي يرتكبُ هذه المعاصي الكريهةَ بحقِّ سواه من الشعراء، بل عايشتُ وقرأتُ الكثيرَ عن هذه التصرفاتِ البغيضةِ : ثمة شعراءٌ آخرون نعدّهم كبارًا إذا سألهم صحفيٌّ - مِمَّنْ يبحثونَ عن الإثارةِ والعناوينِ المشتعلةِ - عن تجربة بدر شاكر السيَّاب مثلًا وهي تجربةٌ غنيَّةٌ ومتألقةٌ ولامعةٌ ، تمكثُ في الوجدانِ و الزمنِ معًا، نجدهم يخرجون كلَّ الذي في أعماقِهم من بذاءاتٍ قاتمةٍ وكلَّ الذي في جعبتِهم من حجارةٍ و سكاكين وخناجر وسواطير ؛ لتمزيقِ قامةِ السيّابِ تمزيقًا ينمُّ عن حقدٍ دفينٍ وعن نفوسٍ ملوّثةٍ بالسواد على الرغم من أنَّ هذا الشاعرَ الفاتنَ باتَ في ذمة الله منذُ سنواتٍ بعيدة ، وأذكرُ في هذا السياقِ أيضًا أنَّ شاعرًا لم يجدْ ما يهجو به تجربةَ السيَّاب الشعرية فبحث على عَجَلٍ عن تهمةٍ مفادُها أنَّ هذا الأخيرَ كان يسرقُ من الشعرِ الإنجليزيّ الذي يتقنُ لغتَهُ مستغلًّا جهلَ الكثيرين من القراء العرب في تلك الحقبةِ بتلك اللغةِ وآدابها ، وثمة شاعرٌ آخر أيضًا لم يجدْ ما يعيبُ السيَّاب وتجربته فسارعَ إلى وصفه بأنه « شاعرٌ ريفيٌّ « ، وبالتالي رأى أنَّ تجربتَهُ الشعريَّةَ ناقصةٌ ؛ لأنه لم يعشْ تجربةً مدينيةً مليئةً وحافلة ! ولكي أكونَ منصفًا ينبغي عليَّ أنْ أشيرَ إلى أنَّ السيَّابَ نفسَهُ - على الرغم من محبتي لأثرهِ الشعريِّ العظيم - لم ينأَ بذاتِهِ عن هذا المستنقع ، ومَنْ قرأ كتابَهُ المثيرَ للجدل الذي بعنوان « كنتُ شيوعيًّا « سيعثرْ حتمًا على الداءِ نفسِهِ الذي أُصيبَ به الآخرون ، فهو لا يتردد أبدًا عن الحطِّ من قيمةِ قائمةٍ من الشعراءِ العربِ وغير العرب أمثال البياتي وناظم حكمت وبابلو نيرودا ، ففي ذلك الكتاب الصادر عن دار الجمل بدا لي السيّابُ ساخرًا ومُصَادِرًا وطاردًا الجميعَ من جنَّةِ الشعر. إنَّ شهوةَ الهجاءِ هذه تبدو مسيطرةً على العديد من الشعراء العرب الكبار ، كما أنَّ نزعةَ تصفيةِ المجايلين والروادِ والمنافسين وزملاءِ الهمِّ الواحدِ تبدو جامحةً على الدوام ، إذْ يكفي انْ تطرحَ سؤالًا عن شاعرٍ ما على طاولةِ شاعرٍ آخر حتى يبادرَ هذا الأخيرُ بإلقاءِ معلقةِ هجاءٍ يترفعُ عن التورُّطِ فيها أكثرُ الناسِ طيشًا..مثلًا الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي كان يمعنُ في هجاءِ أدونيس ، ونحن لا ندري لماذا يهجو حجازي مراتٍ عديدةً أدونيس ، ولا ندري ما سببُ هذا العداءِ الذي نربأ بشاعرٍ ذي تجربةٍ شعريةٍ طويلةٍ وذي ثقافةٍ عميقةٍ مفتوحةٍ على الآفاقِ المضيئةِ والرحبةِ كحجازي أن يسقط في عتمته ومجّانيته ! المستنقعُ ذاتُهُ سقطَ فيه ادونيس أيضًا ، حين أجرى الشاعر عبده وازن حوارًا طويلًا جدًّا من عشر حلقاتٍ مع صاحب « الثابت والمتحوّل « نشرته صحيفةُ « الحياة « اللندنية لم يوفرْ أدونيس أحدًا من الشعراءِ العربِ الكبار بل من رواد الحداثة الشعرية العربية ، وأقامَ للجميع « هولوكوست « - أو محرقةً هائلة - وألقى بهم وبتجاربهم ودواوينهم الكثيرة إلى الجحيم من دون أنْ يطرفَ له جفنٌ ومن دون أن تمتقعَ وجنتاه بحمرةِ الخجل. هنا أيضًا يحقُّ لي أنْ أشيرَ إلى الشاعر الكبير محمد الفيتوري حين خرجَ علينا بهجائياتٍ كريهةٍ وصارخةٍ في حوارٍ طويلٍ تبنته - في حينه - صحيفةُ « الشرق الأوسط « ، في هذا الحوار تناوَلَ الفيتوري سوطًا حادًّا وغليظًا ؛ وجَلَدَ به البياتي وأدونيس ودرويش وقائمةً طويلةً من هؤلاء الكبار ..فهو رأى أنه لم يبقَ من البياتي سوى بضعة مقاطع من « أباريق مهشمة « ، ومن أدونيس بضعة سطورٍ من « مهيار الدمشقي « ، ومن درويش بضعة هتافاتٍ جماهيريةٍ في المخيمات الفلسطينية! هكذا في سطورٍ سريعةٍ في لقاءٍ عابرٍ يختزلُ الفيتوري إبداعَ الآخرين ؛ ليُعْلِي من شأنِ نفسِهِ خصوصًا وأنه كان على امتدادِ مساحةِ الحوار يتحدَّثُ عن تجربته باعتدادٍ بالغٍ ويهيلُ على قامته الوردَ و المدائح ، مثلًا نجده يقولُ من دونِ تردّدٍ : « أنا وحدي شاعرُ المعاناةِ الإفريقية « ، شاطبًا بقولٍ نرجسيٍّ سريعٍ رموزًا شعريةً إفريقيةً بل عالميةً كبيرة ! إنَّ الكارثةَ الأشد وضوحًا هي : إنَّ هؤلاء الشعراءَ الذين يُضمرون الأحقادَ والضغائنَ والكراهيةَ والازدراءَ لشعراءٍ أمثالهم يأخذون على المسؤولين العرب كثرةَ اختلافهم وخلافاتهم وعدائياتهم و هجائياتهم المتبادلة فيما هم أنفسُهم مصابون بالأسقامِ ذاتِها. أخيرًا أقول: كيف لنا أن نحبَّ شعرَ شاعرٍ يدعو للحبِّ والتسامحِ والنقاءِ والجمالِ فيما هو نفسُهُ مسكونٌ بالكراهية؟ 2 بينما كنتُ أقرأ ديوان « يأتي العاشقون إليك « للشاعر محمد الفيتوري وقعَتْ عيناي على ما يشبه الفجيعة..فالرجلُ راحَ يكيلُ المدائحَ لقادسيةِ صدّام بحماسٍ منقطع النظير وهو الأمرُ الذي لم يَسْلَمْ منه عددٌ من الشعراء العرب وليس الفيتوري وحده ، ومع أن قصائده المدججة بالمدائح كانت شهادةً على حضور الشعار وغياب الشعر إلا إنني لستُ هنا بصدد الحديث عن المستوى الفني لتلك المدائح فهي في التحليلِ النهائيِّ بنتُ تلك المنابرِ المدهونةِ بعسلِ الهِبَات. ولكنني هنا بصدد الحديث عن مسألةٍ أراها مهمةً جدًّا لانَّ لها علاقة وطيدة بصدقيةِ الفنان والتزامه الأخلاقي ومواقفه المبدئية التي يُفترَض أن تكونَ راسخةً كالجبال. للفيتوري أن يمتدحَ مَنْ يشاء ، ويصدحَ على موائدِ من يريد ، وليس لي أحقيةٌ في أنْ أجلسَ على أصابعِ هذا الشاعر أو سواه كي أملي عليها ما أشاءُ وما أريد ، ولستُ وصيًّا عليه حتى أعتبَ أو أغضبَ أو ألوم ، ولكنَّ المعضلةَ الحقيقيةَ هنا هي أنَّ هذا الرجلَ في الوقتِ الذي كان يمتدحُ « قادسية صدام « ويعتبرها « قوسًا من المجدِ لا يعرفُ الاختراق «، وفي الوقتِ الذي كان يهندسُ الهجاءَ لمن وصفه بحفيدِ هولاكو - في إشارةٍ منه إلى الخميني - وفي الوقت الذي كان يشبِّهُ الإيرانيين بالذئاب الجائعة وينعتهم بالمجوس، أقول : في الوقت الذي يفعلُ الفيتوري كلَّ هذا نجده يكتب قصيدةً تقفُ على النقيضِ تمامًا من هذا كله ، ففي قصيدةٍ بعنوان « الرجلُ المتحدِّرُ تحت الصنوبر « التي تأتي مباشرةً بعد قصيدة « يأتي العاشقون إليكِ يا بغداد « نجده يغدقُ مدائحَهُ أيضًا على الخميني الذي يرى هذا الشاعرُ الطبّال أنَّ بمجيئه إلى السلطة في طهران « النسوةُ اليابساتُ يخلعن عن روحهن ثيابَ الحداد « ، ويرى كذلك أنَّ الخميني « يحرّكُ عصرًا من العقم « ، وأنه « البطلُ العبقريُّ « ، هكذا وربّ الكعبةِ قالها الفيتوري من دون حياءٍ أو خجل ، ناسيًا أو متناسيًا أنه في قصيدة « يأتي العاشقون إليكِ يا بغداد « التي تقدمَتْ على هذه القصيدةِ ببضعِ وريقاتٍ فقط من الديوانِ نفسِهِ كان يرى النقيضَ تمامًا ،كان يصفُ الخميني بأنه « هولاكو العصر « ، بينما في قصيدة « الرجل المتحدر تحت الصنوبر « يصفه بأنه « البطل العبقري «! أيُّ تناقضٍ هذا ؟ وأيُّ ازدواجيةٍ ؟ بل أيُّ إهانةٍ لنا نحنُ معشرَ القراء ؟ ترى هل كان يظنُّ هذا الشاعرُ « الكبير « أنَّنا محضُ كوكبةٍ من المغفلين أو قطيعٍ من السُّذّج؟ 3 محمد الفيتوري المصابُ بعقدةِ اللونِ يبدو دائمًا محتدًّا كعاصفةٍ ناضجة ، وقلقًا كموجةٍ عَكَّرَتْ مزاجَها الريح..وهو دائمًا يشعلُ حَولَهُ أسئلةً حامضة، ودائمًا ما تكونُ استثارتُهُ سهلةً ، فهو سريعُ الغضبِ والعطبِ معًا كزجاجٍ هَشٍّ ، وهو يبدو دائمًا مُهيَّأً للانفجارِ في أيِّ لحظة. ذات مساءٍ بارد ، وبينما كان يعتلي منصَّةَ الإلقاء في معرض القاهرة للكتاب ، سمعَ جلبةً خفيفةً في صفوف المتلقين فما كان منه إلا أنْ غادرَ القاعةَ غاضبًا ؛ احتجاجًا على جمهورٍ لا يثمِّنُ الشعرَ ولا يحترمُ الشاعر ! 4 في برنامج « خلِّيكْ في البيت « الذي تبثه قناةُ « المستقبل « استطاعَ زاهي وهبي في إحدى حلقاتِهِ المثيرةِ أن يجعلَ دَمَ الفيتوري - الذي كان مُسْتَضَافًا على الهواءِ - يغلي كغليِ الحميم ، بل جعله يتصَبَّبُ عرقًا غزيرًا ، وبدا لي في اللحظاتِ هذه كما لو كان محضَ « مَرَّشَةٍ « غاضبة..وعلى الرغم من أنه كان يحاولُ أن يبدو متماسكًا ورصينًا وفي صورةِ مَنْ لا تهزُّهُ الأسئلةُ المستفزة ، إلا أنه في لحظةٍ ما من الحوار الساخن انفجرَ دفعةً واحدة كما لو أنه كان بركانًا مغطًّى بوردة ، وغادرَ المكانَ وهو يمشي مخفورًا بوعولِ الغضب. 5 الفيتوري كثيرُ التناقضاتِ حتى على صعيد الأرض التي ينتمي إليها ، فهو مرَّةً سودانيٌّ ، ومرَّةً ليبيٌّ ، وثالثة إسكندراني ! وهو الشاعرُ الرقيقُ كغصن و السياسيُّ الذي دأبَ على هجائه، وهو الصوفيُّ المحلّقُ في سماواتٍ نورانيةٍ والمناضلُ العتيدُ الذي لا يرفُّ له جفن..وهو الذي يكتبُ نصوصًا بديعةً مفعمةً بنضارةِ الحياةِ وإشراقةِ الجَمال وفي الوقتِ ذاته هو من يكتبُ نصوصًا سياسيةً مباشِرَةً وعابرةً و ناشفةً كالحطب..وهو الذي كان ينادي في قصائده بكرامةِ الإنسان وأنْ تكونَ قامتُهُ شاهقةً كنخلةٍ ، عصيَّةً على الانحناءِ مثل جبل.. ومع هذا لا يتورَّعُ هو نفسُهُ عن الانحناءِ لتقبيلِ يَدِ السيد سليم الحص - رئيس وزراء لبنان الأسبق - الذي فوجئ بالموقف فراحَ يهتفُ : « أستغفرُ الله ، أستغفرُ الله « ، وحين سُئِلَ الفيتوري لماذا فعلتَ هذا ؟ أجاب : قبَّلْتُ يَدَ الحص لأنها نظيفةٌ ، ولأنَّ الحص في مقامِ أبي ! مع أنَّ الفيتوري لم يكن صغيرًا بل يكادُ عمرُهُ يضاهي عُمْرَ الحص نفسه. السؤال المهم هنا : لماذا كان الفيتوري - يرحمه الله - يعرّضُ نفسَهُ لهذه المواقف « البايخة « التي كان آخرها مع الشاعر الإماراتي حبيب الصايغ - صاحب الديوان الشهير «التصريح الأخير للناطق باسم نفسه» - والحكايةُ تبدأُ هكذا : عندما قدمه الصايغ في أمسيةٍ شعريةٍ في الإمارات قال له فيما يشبهُ الدعابة : « نريدكَ الليلةَ أن تقرأ الشعرَ الشعرَ « ، وهذا بنظري مطلبٌ مشروعٌ من حبيب رحمه الله ؛ لانَّ الفيتوري دأبَ في سنواته الأخيرة على قراءةِ نصوصٍ خطابيةٍ فَجَّةٍ لا علاقة لها بالشعر ، فما كان من صاحب « معزوفة لدرويشٍ متجول « إلا أنْ غضبَ غضبةً مُضَريةً كما هي عادته ورَدَّ على حبيب الصايغ ردًا قاسيًا كالرصاص ، ولستُ أدري ما إذا كان غادرَ المنصةَ تلك الليلة أم سكتَ عنه الغضب ؟