نداءات التجربة.. من التجنّي إلى التجلّي.

«هنالك شيء ما، يولد دائمًا من الفيض» يمكننا أن نتأمل سيكولوجية الفيض في أحوالنا، وهي تتأرجح بين الضرورة والرغبة، بين الاضطرار والإرادة، بين الحاجة والمسلمات… لأنه لا يَرِدُنا عبثًا ولا نستدعيه بترف، بل ينجم عن لحظة حاسمة تقرر المصير والوجهة. وتتمثّل إحدى دعامات الفيض في حظوة البدء، حين ننخرط في مسالك مجرّدة من ارتباكاتنا الدفينة. في معظم أحوالنا نجدها تدفعنا للمضيّ قُدُمًا بلا مجهود، كأنها يدُ العون التي نتحفّظ في حضرتها عن التردّد، وتبدأ ذواتنا في إيلائها أعظم تقدير، لأننا لا نتوقّف لنفكّر مليًا في مخاوفنا، بل نندفع خِفافًا في كنفها. وبرغم أنّ بعض البدايات اضطرار، وبعضها خطوة إجباريّة، وبعضها خطّة احتياطيّة، إلّا أنّ ما تتضمّنه من صفاء في ظاهرها كتجربة تحمل براءة البدايات، ورهبتَنا من أوضاعنا الحاليّة، ورغبتَنا في الانعتاق والتجدّد، كلُّ ذلك يجعلنا لا نصدر حكمًا مسبقًا، بل نرغب في طيّ السابق والبدء بشيء يشبه التشافي، ويشبه النُزهة التي نتوهج فيها من جديد. جديرٌ بالحياة، ما دمنا على أعتابها، أن نصبو إلى لمحاتها مهما كنّا متألمين أو خائفين، وأن نصغي إلى النداء الذي تصمد في وجهه أرواحُنا، فتنتعش، وتنشغل، وتقاوم، وتتَصالح، وتستردّ جوهر حضورها. نبدأ ونتّجه بشجاعة نحو هذا البدء. تأخذنا أشرعة المراكب التي تحملنا صوب المأمول، تُؤرجحنا الرياح إلى المعلومٍ جزئيًا في ظاهره، والمخفي غيبيًا في حكمته وعمقه ودلالته، وبإثارة الفضول، وشغف الحاجة إلى الاستمراريّة، نصبو إلى الرحلة؛ لأن نجاتنا تبدأ من التحرّر أوّلًا من التبعات، نحو دافعٍ يفضي بسهولة إلى البناء وفلترة الذاكرة، لنصبح مجدّدًا قادرين، قانعين، متحرّرين كفاية. لنكون على قدر سموّ التجربة: بصفائها، بندائها، بقدراتها، وبالمسار القِيميّ الذي نسلكه في حضرتها. إذًا، في البدء كانت التجربة، ثم تحرّر الإنسان… وبين تجربة وأخرى تَقاطعَت نهاية وبداية، من الاحتمال إلى الإرادة، ومن إرهاصات التجربة إلى التسامي بجوهرها، فلم يستطع أحد أن يعيق المرء عن نداء التجربة واعتناق الخطوة قط، ما دام خفقها يلح في ذاته! فمحاولاتنا في محو المخاوف كذوات ليست سوى اتجاهٍ مُغاير يناقض كل محدود في منطقنا التالف سلفًا، ويطلقنا في فيض من الرؤى والآمال مجددًا، كأننا لم نفزع قط، ولم توقفنا انتكاسة. إن حضورنا بصفاء يتحقق نظير تصالحنا مع الحياة ومع دواخلنا،  في لحظاتنا الجديدة التي تحرس مظهرنا من جديد، وتمنحنا غبطة الحياة: «كأحياء باقين، ولديهم في حيواتهم بقيّة». فيضٌ من المعنى يتجدّد في كل إنسان يؤمن بشيءٍ ما ويعرف، مهما انغمر في مساحة من المجهول، حسبُه يقين المعرفة التي تخصه، ونجاته بدعامة الفيض وهالته كإنسان له نصيبه في التجربة والحياة... بدأتُ مجددًا… في كل مرة ظننتُ أنه الانتهاء،  ثم انتهيتُ كثيرًا، حتى تشكّلت أسمى تجاربي من أفظعها… وهذا حالُ الكيانات النابضة، التي يتخافق في منابعها يقين ومَلحمة، وأمل وظلمة، وحُلم وأسوار… وهكذا؛ ترهبنا الحياة حينًا حتى نتهذّب بالتجلّي مما نخاف، ونفيض بما نحب رغمًا عن أي شيء، ونتسامى في كل أحوالنا: على إثر تجربة.!