
تتمحور رواية “منبوذ الجبل” للروائي السعودي” عبد الله ناجي” حول فكرة رئيسية، وهي أزمة الهوية والبحث عن الذات في ظل الاغتراب الوجودي. تجسد الرواية هذه الأزمة في شخصية البطل، أحمد الحداد، الشاب الذي وُلد ونشأ في مكة المكرمة لأب يمني وأم سعودية، ليجد نفسه معلقاً في فضاء اجتماعي لا ينتمي إليه بالكامل. هذه الإشكالية هي الشرخ العميق الذي تتسرب منه كل أسئلته حول الانتماء، والوجود، والذات، والوطن. فالرواية تطرح سؤالاً جوهرياً: هل الهوية تُمنح أم تُكتسب؟ وهل هي وثيقة رسمية أم شعور بالانتماء ينمو في تربة الذاكرة والروح؟ من خلال هذه الفكرة الرئيسية، تتشعب عدة أفكار ثانوية تثري النص وتعمّق دلالاته. أولها فكرة الجسد كخريطة للذاكرة والألم؛ فآثار الحروق على جسد “أحمد” منذ طفولته ليست مجرد ندوب جسدية، بل هي علامات فارقة تؤرخ لبداية وعيه بالاختلاف والألم، وتصبح رمزاً لجراحه النفسية. ثانياً، تستكشف الرواية الكتابة كفعل للخلق والمقاومة، حيث يلجأ “أحمد” إلى عالم الكلمات والقراءة ليبني لنفسه هوية خاصة، في محاولة للهروب من واقعه المفروض عليه. وأخيراً، تطرح الرواية إشكالية الحب كخلاص محتمل ومأزق جديد، ويخوض تجربته من منظوره الشخصي الحميمي. هذا الاختيار يسمح بتوظيف تقنية تيار الوعي بشكل فعال، حيث يتداخل الزمن وتتشابك الذكريات مع الواقع الراهن في تدفق حر يعكس التشظي النفسي للشخصية. كما تعتمد الرواية بشكل كبير على تقنية التفتيت، فالأحداث لا تُروى بتسلسل زمني خطي، بل عبر ومضات ومشاهد متناثرة تستدعيها الذاكرة، مما يعزز الشعور بفوضى التجربة الداخلية للبطل. الاسترجاع هو أداة مركزية في بناء السرد، فمن خلاله نكتشف الأسباب الجذرية لأزمة “أحمد”، مثل حادثة الصعق الكهربائي في طفولته، ولحظات اكتشافه لوضعه الاجتماعي الشائك. علاوة على ذلك، يستخدم الكاتب لغة شعرية ومجازية عالية، مما يجعل السرد يقترب من حدود الشعر، ويحول الأحداث اليومية إلى رموز ودلالات أعمق. تقنية التناص حاضرة أيضاً من خلال الإشارات المتعددة إلى الكتب والمؤلفين، مما يوضح كيف شكل الأدب وعي البطل ورؤيته للعالم. هذه التقنيات مجتمعة تخلق عالماً روائياً لا يهتم بتقديم حكاية بقدر ما يهتم برسم خريطة نفسية معقدة للذات الإنسانية. تُبنى رواية “منبوذ الجبل” حول شخصية محورية هي أحمد، الذي يمثل بؤرة السرد ومن خلال وعيه نرى العالم والشخصيات الأخرى. أحمد شخصية مركبة، فهو انطوائي، مثقف، وحساس، وموسوم بندوب جسدية (أصابعه المحترقة والندبة تحت عينه) وندوب نفسية أعمق تتعلق بهويته المأزومة. كل الشخصيات الأخرى في الرواية تعمل كمرآة تعكس جانباً من جوانب شخصيته أو كقوة فاعلة تساهم في تشكيل مصيره. الأم “غالية” تمثل الجذر والحنان والانتماء المفقود، ومرضها وموتها يمثلان الصدمة الكبرى التي تدفعه إلى أعماق العزلة. الأب يمثل الأصل والماضي الصامت والحكمة البسيطة. الأخت “فاطمة” هي امتداد لحنان الأم ونافذة على حياة أسرية مستقرة يفتقدها. في المقابل، يمثل الأخ “خالد” السلطة الاجتماعية القاسية، وهو تجسيد للعالم الخارجي الرافض له. على صعيد الأصدقاء، يمثل “إبراهيم” الند الفكري والعقلي الذي يشاركه تأملاته الوجودية، بينما يمثل “بندر” الصداقة الأكثر بساطة وعفوية. أما الشخصيات النسائية في حياته، فكل منهن تمثل مرحلة أو جانباً من بحثه عن الذات والحب؛ “إيمان” هي الحب المثالي والمعقد الذي ينتهي بالخسارة، و”أمل” هي طيف من طفولة بريئة ومؤلمة، و”حياة” تمثل علاقة واقعية وعملية تنشأ في خضم حياة التيه والضياع. هذه الشبكة من الشخصيات، الرئيسية والثانوية، ترسم عالماً غنياً تتفاعل فيه القوى الداخلية والخارجية لتصنع مصير “المنبوذ”. يلعب الزمان والمكان في “منبوذ الجبل” دوراً يتجاوز مجرد كونهما إطاراً للأحداث، ليصبحا عنصرين فاعلين في تشكيل وعي الشخصية وتعميق دلالات الرواية. المكان هو البطل الصامت في العمل، وعلى رأسه “الجبل” الذي يمثل رمزاً متعدد الأبعاد: الأصل، الطفولة، القداسة المجاورة للحرم، والجنة المفقودة. مكة هي مدينة المفارقات، فهي مدينة مقدسة تحتضن الجميع، لكنها في نفس الوقت مدينته التي يعيش فيها البطل اغترابه. مدينة “جدة” تمثل فضاء الحداثة والضياع، حيث يحاول أحمد أن يبدأ حياة جديدة كـ “صعلوك من صعاليك المدينة”. أما الأماكن المغلقة كالغرفة والسيارة، فتتحول إلى أمكنة رمزية للعزلة والتأمل، وهي الفضاءات التي ينسحب إليها البطل لممارسة طقوسه في القراءة والكتابة ومواجهة ذاته. أما الزمان، فهو زمان نفسي. تهيمن عليه الذاكرة، حيث يستدعي البطل الماضي باستمرار ليفهم حاضره. اللحظات الزمنية الفارقة مثل وفاة الأم، وليلة طرده، ولقاءاته العابرة، تعمل كنقاط ارتكاز يعود إليها السرد مراراًوتكراراً. هذا التلاعب بالزمن يعكس حالة التيه والضياع التي تعيشها الشخصية، ويؤكد على أن الماضي ليس شيئاً مضى، بل هو قوة حية تشكل الحاضر وتلقي بظلالها على المستقبل. تتخذ رواية “منبوذ الجبل” شكلاً فنياً حديثاً يبتعد عن القالب الروائي التقليدي ليقترب من شكل الرواية الشعرية أو رواية السيرة الذاتية التأملية. البناء الروائي لا يعتمد على حبكة متصاعدة ذات بداية ووسط ونهاية واضحة، بل على مجموعة من المشاهد والذكريات والتأملات التي تتجاور. هذا الشكل المجزأ يعكس بدقة حالة التشظي التي تعيشها الشخصية الرئيسية. أما اللغة، فهي السمة الأبرز والأكثر تميزاً في الرواية. يستخدم “عبد الله ناجي” لغة ذات كثافة شعرية عالية، تتجاوز وظيفتها الإخبارية لتصبح أداة للكشف والاستبطان. اللغة مجازية ورمزية بامتياز؛ فالجسد يصبح خريطة للذاكرة، والرائحة نافذة على الروح، والكتابة فعل خلق وجودي. السرد مشحون بالصور الشعرية المبتكرة التي تحول التفاصيل اليومية العادية إلى لحظات ذات عمق فلسفي (“الكتب هي الأصدقاء الأقرب”، “أصبحت أقرأ تاريخ الحزن صفحة صفحة”). هذه اللغة الشعرية لا تزين السرد، بل هي جوهره، فهي الأداة الوحيدة القادرة على التعبير عن تعقيدات التجربة الداخلية للبطل، وعن مشاعره المتناقضة التي تتأرجح بين الأسى والأمل، وبين اليأس والرغبة في الفهم. إنها لغة لا تروي بقدر ما تكشف، ولا تصف بقدر ما توحي، مما يجعل تجربة قراءة الرواية تجربة جمالية وفكرية غنية. في ختام رحلته المليئة بالندوب، يقدم بطل رواية “منبوذ الجبل” على فعل رمزي ومزلزل، وهو حرق مئة نسخة من ديوانه الأول، قربانه الذي قدمه لعالم الأدب. هذا الفعل لا يمثل مجرد نهاية عدمية، بل هو ذروة درامية تلخص فلسفة الرواية بأكملها. إن حرق الكتب هو محاولة أخيرة للتخلص من الهوية التي بناها على الألم والخسارة، هوية “الشاعر المنبوذ”. إنه فعل تطهيري، يشبه طقوس الشواء القديمة، حيث يحرق ذاته القديمة ليتحرر من عبئها. لكن هذا التحرر لا يقود إلى إجابة واضحة، بل يفتح الباب على سؤال أكبر حول المستقبل المجهول. لقد استطاعت رواية “منبوذ الجبل” ببراعة فنية ولغة شعرية آسرة أن ترسم ملامح الذات العربية المعاصرة القلقة، التي تعيش أزمة هوية متعددة الأبعاد: اجتماعية، ووجودية. إنها ليست مجرد قصة عن فرد، بل هي مرثية لذاكرة مكان لم يعد له وجود إلا في روح الشاعر، وصرخة بحث عن انتماء حقيقي في عالم متغير وقاسٍ. تتركنا الرواية في النهاية أمام صورة البطل وقد تخلص من “قربان الشعر”، ليواجه الصحراء الشاسعة، رمزاً للفراغ والبداية المحتملة في آن واحد، مؤكدة أن رحلة البحث عن الذات لا تنتهي أبداً. *قاص وروائي مصري.