مارسيل بروست بين إيقاع الألكسندرين والهايكو ..

مقارنة بين الحساسية السردية الفرنسية والتكثيف الشعري الياباني.

حين نقترب بعمق في جوانب الأدب والفنون في التاريخ الفرنسي كلغة ممتدة منذ بداياتها نراها كثيفة بذاتها وقد تقترب من غرور اللغة الذي يتعامل بحساسية معينة مع الأخر وضد الخارج , اللغة الفرنسية في بنيتها تميل إلى الاكتفاء والدقة, كل لفظة في مكانها وكل تركيب يفرض على الكاتب والشاعر التزاماً لا يمكن تجاوزه, هذا خلق بناء شعري يتداخل في القصيدة أو السرد الروائي الممتلئ بالتشبيه وهو ما يسمى بـ «الألكسندرين» , ويمثل هذا الوزن الشعري المرتبة الأعلى في التراث الفرنسي , يتكون من اثني عشر مقطعاً صوتياً يتوزعان على شطرين يفصل بينهما وقفة داخلية تسمى «سيزيوغ « بمعنى فاصلة لفظية , هذه الوقفة تؤدي وظيفة أكثر من شكل إيقاعي ، وتتشكل كمحور بنيوي يقسم البيت الشعري ويمنحه توازناً صارماً , استخدمه كبار الكلاسيكيين مثل راسين وكورنيي في المسرح المأساوي , فأصبح الإطار الذي تُكتب فيه أعمق لحظات الصراع البشري , يظهر فيه الإيقاع منتظما ويخضع لقواعد دقيقة يجعل اللغة الفرنسية أكثر شفافية في دقتها وأكثر التزاماً بصرامتها , والألكسندرين يضاعف هذا الطابع , كونه نظاماً لا يقبل الارتخاء ويفتح داخله مجالاَ للشاعر كي يُدخل الشحنة العاطفية في قلب الصرامة , وهنا تتجلى المفارقة , من حيث شكل الوزن ثابت لكن المعنى حر. وحين نربط السياق التاريخي الكلاسيكي المرتبط بشكل مثير للاهتمام لكسر قاعدة صارمة , نستحضر أهم إسم في سياق الحركة الفرنسية للرواية وهو الروائي الفرنسي ( مارسيل بروست ) كوني في وقت سابق اطلعت باهتمام على ملاحظات المترجمة ليديا ديفيس على الجزء الأول من عمل مارسيل بروست, وهو ما دحض رأيي الشخصي في تميز طريقة بروست بين دمجه بين عالمين , من حيث البيئة الفرنسية للاحتمالات العميقة التصويرية وبين الحياة المتشبثة كصورة سينمائية صامته داخل الطبيعة الخام كما يعمل الهايكو الياباني , وعلى كون هذا الدمج طبيعة دقيقة سردية في بناء الجملة النثرية , حيث يعتمد الكاتب على إيقاع الألكسندرين الكلاسيكي بشكل واضح مع تراكيب موازية تتوزع على مقاطع صوتية متقاربة, وتكرار متناغم عبر الجناس والتنغيم اللفظي , هذا البناء يمنح الجملة النثرية خاصية إيقاعية, تجعلها أقرب إلى العمل الشعري من حيث البنية الداخلية , ولأن الترجمة تتحول الجملة فيها إلى مساحة معقدة تحتاج إلى إعادة صياغة متعددة بهدف المحافظة على هذه البنية الصوتية الدقيقة. في قراءة مارسيل بروست ضمن منظور يستحضر الهايكو الياباني , يظهر أن كثيراً من مقاطعه يمكن فصلها عن السياق السردي لتصبح وحدات شعرية مكتملة ذات تركيز بصري وحسي شديد, مثال على ذلك في مشاهد فندق البحر في بالبيك كان يعرض الراوي مائدة الغداء كأنها لوحة طبيعة صامتة , وهذا لن يدهش أي قارئ لبروست , إذ إن نثره يوشك دوماً أن ينقلب إلى شعر , غير أن الأمر لا يقتصر على الشعر الفرنسي وحده بالطبع , فــ مع انشغال الذهن بالهايكو أثناء قراءة بروست يتكرر أن الاحظ ما يمكن وصفه بـ « الهايكو المستنبط « من نصوصه , مقاطع يمكن إذا اقتطعت من سياقها أن تعمل تماماً كقصيدة هايكو مع قليل من التساهل في عدد المقاطع. في الجزء الثاني في فندق الساحل في بالبيك، يفتن الراوي بالمشاهد الدرامية للبحر لكنه أيضا يحاول أن يجد الجمال في أكثر الأشياء عادية , وفي لحظة أخرى يمكث بعد الغداء في قاعة الطعام متأملاً الأشياء على الطاولة غير المصفاة من الأشياء عليها كما لو كانت لوحة طبيعة صامتة , فيرى حركات مكسورة لسكاكين مستلقية بعضها فوق بعضها البعض , ومع استمرار الوصف تتشكل عبارتان أخرى كحلقتين في قصيدة مرسومة: ( انتفاخ دائري لمنديل مهمل أدخلت فيه الشمس رقعة من مخمل أصفر ! ) وكما هو مألوف عند بروست فإن قائمة الأشياء على الطاولة تمتد أطول بكثير. وفي ترجمة مونكريف الإنجليزية تمتد الجملة التي اقتطعت منها هذه اللمحة من الهايكو إلى 210 كلمات، وهذا يُعد قصيرا بالنسبة لبروست, وربما يبدو أن أقصر شكل شعري في العالم يتعارض مع أطول رواية في العالم ! ومع ذلك فإن ما يشترك فيه بروست والهايكو رغم اختلاف عدد المقاطع أو الصفحات هو الموقف نفسه من حيث دفع اللغة إلى أقصى حدودها الوصفية لتجعلك تشعر بجوهر الواقع. حين يرى مارسيل خادم أميرة لوكسمبورغ يدخل الفندق حاملاً « أروع باقة من الفاكهة» ويتساءل في نفسه لأي مسافر أميري نزل هنا متخفيا، وهل يمكن أن تكون مُعدة ؟ يصفها بتساؤل وبأسلوب هايكو وعبر مقارنتها بمشهد البحر والطقس: (خوخ أزرق مُخضر, مضيء وكروي كما كان البحر المحيط في تلك اللحظة , عناقيد عنب شفافة على خشب متجعد، مثل يوم خريفي صافي وكمثرى بلون أزرق سماوي) ! في صورة أخرى متداخلة الوصف والتشبيه , كان الجزء الأول يزور مارسيل عمه أدولف فيجد عنده زائرة هي إحدى الغواني ، وسيدرك القارئ لاحقا أنها أوديت دو كريسي ، التي ستتزوج لاحقاً من صديق والديه سوان ، ومن ثم تصبح شخصية رئيسية في الرواية , لم يغفر والداه لعمه أبداً تعريفه بتلك المرأة الغانية ، لكن مارسيل الطفل افتتن بجمالها عند أول رؤية ووصفها وكأنها في حالة تشكيل متخيل لبورترية في عمق اثيري فرنسي التصور والطابع : ( في ثوب حرير وردي، وعقد لؤلؤ عظيم حول عنقها، جلست شابة توشك أن تُنهي ثمرة اليوسفي ) قُسمت هذه الجملة إلى ما يقارب 31 مقطعاً كما في التانكا ، لكن تركيزها الوصفي يجعلها أقرب إلى الهايكو , فذكر ثمرة اليوسفي التي توشك على إنهائها يعبر عن حسية وجمال أوديت في نظر مارسيل أكثر من أي وصف مباشر , وكما يقول بروست في الجزء الأخير و كأنه يضع نظرية للهايكو: لن تبدأ الحقيقة إلا حين يقارن الكاتب بين صفات متشابهة في إحساسين، ليجعل جوهرهما يبرز بوضوح عبر جمعهما ومنتزعاً إياهما من عوارض الزمن , غالباً ما تقارن النساء عند بروست بالفاكهة والزهور في صور حالة التذكر، على الأقل بالنسبة لي في مسألة النقد والتتبع عند ترادفها المخلوق بالتشبث بالطبيعة في الفكر الأسيوي بالشعر الياباني . وحين نرى جانباً بعد زواجها من سوان، تظهر أوديت كإلهة متفتحة: (فجأة, وعلى الممر المغطى بالحصى, ببطء وبرود و فخامة , كانت مدام سوان تظهر متألقة في زي لا يتكرر مرتين , أذكره غالباً بلون بنفسجي فاتح , ثم كانت ترفع وتفتح في نهاية ساقها الطويلة، تماماً عند لحظة إشراقها الأقصى , راية حريرية لمظلة واسعة, ظلها يطابق انهمار بتلات فستانها) . ربما كان بروست يعرف البعض من تكنيك توظيف الهايكو , فـ بول لويس كوشو الذي أدخل الهايكو إلى فرنسا عام 1908 في كتابه «الأبيجرامات الغنائية لليابان» كان صديقاً مقربا للروائي أناتولفرانس, وهو النموذج لشخصية بيرغوت في البحث عن الزمن المفقود , وكان كوشو أيضا منفذ وصية الكونت روبرت دو مونتسكيو صديق بروست ونموذج شخصية البارون دو شارلوس , مع هذه الصلات ومع ميل بروست المعروف لليابان، ليس مستبعداً أنه قرأ هذا الكتاب وعرف وتأثر في جماليات الهايكو, لكن حتى إن لم يفعل فإن في نثره روحاً «هايكوية « العوالم وواضحة ، ربما لأنه كان منصتاً للعالم بالأسلوب نفسه الذي يميز شعراء الهايكو . البنية للجملة لدى بروست تعتمد على الامتداد الإيقاعي، في حين يعتمد الهايكو على القطع الإيقاعي الحاد , فأي جملة لدى بروست تتراكم عبر موجات متتالية من الصور, لكنها تظهر في الهايكو باكتفاء بصف واحد أو صفين من الصور التي تصنع لحظة إدراك كاملة , ومع ذلك فإن الحساسية البصرية والقدرة على تحويل تفاصيل عابرة إلى جوهر لحظة هو القاسم المشترك بينهما , وهذا يعني إن إدراك بروست للمشهد لم يكن يقتصر على تسجيل المعلومة فقط , لكنه أيضاً شمل إعادة بناء التجربة الحسية بكامل عناصرها، من خلال توظيف الضوء واللون إلى ملمس الأشياء , وفي هذا يمكن القول إن بروست يقارب فلسفة الهايكو التي تقوم على الاقتصاد اللغوي وتكثيف المعنى المستشعر مع فارق أن جملته تتحرك داخل فضاء زمني أطول، مما يسمح بمد اللحظة الحسية عبر مسار سردي ممتد. الاحتمال التاريخي لتأثر بروست بالهايكو يظل قائماً، خاصة مع وجود شخصيات أدبية فرنسية مثل بول لويس كوشو، الذي قدم الهايكو إلى فرنسا في مطلع القرن العشرين، وكان قريباً من دوائر أدبية مشتركة ,غير أن هذا التأثر سواء كان مباشراً أو غير مباشر, يتجلى في تشابه البنية الإدراكية بين أسلوب بروست داخل ايقاع الألكسندرين ومبدأ الهايكو وفي انتزاع لحظة من تدفق الزمن وتجسيدها في صورة مكتفية، متوازنة، وقابلة للتأمل المستقل. *كاتبة ومترجمة . الرياض