
لم تعش وسائل الإعلام المطبوعة زمناً غير عادل بحقها، مثلما مرّ عليها منذ أن فتح علينا السيد «غوغل» نوافذه. ولم تدخل هذه الوسائل في تاريخها منافسة غير عادلة، إلاّ عندما صنعت شبكة الإنترنت نموذجها الإخباري في وسائل التواصل الاجتماعي، وتحوّل موقع «فيسبوك» إلى أكبر جمهورية افتراضية في العالم، يسكنها أكثر من ثلاثة مليارات مستخدم. بهذه العبارات يفتتح الكاتب والصحافي كرم نعمة كتابه «السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي»، الذي يطرح فيه تساؤلات تؤرق مضاجع المشتغلين بالعمل الصحافي عبر العالم، بشأن إمكانية أفول نجم الصحف المطبوعة خلال الأعوام المقبلة، إلى غير رجعة. يحتوي الكتاب الضخم الصادر في 624 صفحة على ثلاثة فصول فقط، هي عبارة عن 250 مقالاً سبق نشرها خلال الأعوام الأخيرة. ويتناول أول هذه الفصول ما يعتبره المؤلف «أزمة الصحافة الوجودية»، يليه فصل بعنوان «الحقيقة القبيحة وما بعدها»، وهو يتعلق بالدور الذي لعبته مواقع التواصل الاجتماعي وشركات الإنترنت في تدهور صناعة الصحافة على مستوى العالم بشكل عام. أمّا الفصل الثالث والأخير، فهو عن «عصر التلفزيون الذهبي». ويرى الكاتب أنه لا يمكن التقليل من شأن العديد من المواقع الإلكترونية المهمة والمثيرة للإعجاب، ونحن نتحدث عن بدائل الصحف في أزمتها الوجودية، بوصف هذه المواقع أفضل أمل لمستقبل الصحافة خصوصاً غير الربحية منها، لكنها لا يمكن اليوم ولا في المستقبل الرقمي للحياة، أن تشغل مساحة تأثير الصحف عبر تاريخها، ليس لاعتبارات متعلقة بفكرة «الحنين إلى الماضي» وحدها، بل بطبيعة قوة التأثير، فكل الدراسات العلمية أثبتت أن قوة القراءة المباشرة على الوعي تفوق بكثير التصفح على الأجهزة الرقمية. والمشكلة، في تقديره، تقع على عاتق الصحافيين الذين لا يعرفون من هم في العصر الرقمي، وما أهمية عملهم بين جيل الهواتف الذكية. ولسوء الحظ فإن التاريخ نفسه عاجز عن تقديم دروسه لهم من أجل استلهامها. صحيح أن التاريخ قد أرّخ لكل الإنجازات الصحافية في مدونته، لكن تلك المدونة على ضخامتها لا تقدم درساً في العصر الرقمي، إنها ليست الآن سوى مدونة لـ «المجد الآفل»! يقول المؤلف: «ما يحدث اليوم أننا كصحافيين نعزل أنفسنا في فقاعات أيديولوجية، وتجارية، ونتعرض فقط لآراء الذين لديهم طريقة تفكيرنا نفسها. فعندما يدير الصحافي ظهره للأفكار المبتكرة، ويخضع لسيطرة الشركات، فإنه سيجعل من الصحافة مقبرة لنفسه، مثلما يُسهم في إبقاء مهنته راقدة في السوق المريضة». جيوش من «الحمقى» لا يتوقف الكاتب عبر صفحات كتابه عن مهاجمة مواقع التواصل الاجتماعي، التي يعتبرها بعض الناس حول العالم بديلاً عصرياً للصحافة، قائلا: «بمجرد أن نعلم الرقم المخيف للأسماء الوهمية على مواقع التواصل الاجتماعي، سنكتشف بسهولة تراجع المفهوم الأخلاقي في المجتمع الرقمي. هناك الملايين يمارسون العبث، وإطلاق التُهم والنقاش العنصري، وترويج الأخبار الملفقة، وجميعهم بأسماء مستعارة. دعك ممّن يقومون بالدور نفسه وبأسمائهم الصريحة، إنهم أقل عدداً لكنهم أيضاً جزء من حفلة الفوضى اللاأخلاقية التي أوجدها العصر الرقمي». وليس هناك شيء مخيف، في عالمنا اليوم، أكثر من أن تتحول شركة «ميتا» مالكة موقع «فيسبوك» إلى أكبر مستبد في العالم، وقوة متعجرفة، وشركة غارقة في الظلام لتبادل المعلومات المزيفة، فالتزييف المنتشر سواء بشخصية المستخدمين أو في نشر المعلومات، هو مجرد جانب آخر من جوانب التكنولوجيا، يقوض مصداقيتها، ويحرف مهامها النبيلة مع الدول ووسائل الإعلام والمجتمعات. لا تكتفي شركة «ميتا» بربط العالم بوصفها أداة للتواصل، كما يرى المؤلف، بل إن عملاق مواقع التواصل الاجتماعي لا يتردد في السعي إلى حكم العالم، والتأثير على مزاج الديمقراطيات والقوانين والبنوك، وإثارة النزعات العنصرية والطائفية، وترويج الأخبار الملفقة. ويعتبر «نعمة»، أن هناك مناهضة متصاعدة لكل ما هو حقيقي على الإنترنت، وهو ما تكشفه مواقع التواصل المختطفة من قبل «جيوش من الحمقى»، حسب تعبيره، ما يترك الأفراد الواعين خائفين من التعبير عن آرائهم. فهناك العديد ممّن يريدون نقاشاً جاداً وتبادلاً حقيقياً للمعلومات والأفكار، لكن التضخيم في غرف الصدى المليئة بالعبث الفارغ عبر هذه المواقع المفتوحة، قد يثبطهم في نهاية المطاف. وفي تقدير الكاتب، فإن نمو الصحافة على الإنترنت أشبه بنمو الفطر، أما تنوعها على الشبكة العنكبوتية فيبدو أشبه بتشابك الحقول المرجانية في أعماق البحار، لذلك ستكون تسمية «صحافة المايكرو خبر» جديرة بالوفاء، نظراً لما ينقله موقع «تويتر» مثلاً من أخبار قصيرة. فلم تعد الصحافة بمفهومها الجديد تتحمل الرأي بصفته نموذجاً مطولاً ومستقلاً، بل إن هذا الرأي أصبح موضع تجاهل، وبات عاجزاً تماماً في مواجهة تقديم معلومات بمحتوى مهم في وقت حدوثها، لحظة بلحظة. وهنالك مفهوم جديد للصحافة نما مع «تويتر»، وهو أمر أغرى رؤوس الأموال بتحويل هذا المفهوم إلى فكرة مالية لإعادة تأهيل السوق المريضة في صناعة الأخبار، بعد أن اقترب دق المسمار الأخير في نعش الصحافة. الأخبار لا تموت تعيش الصحافة اليوم أزمة غير عادلة بحقها، وتم تجريب كل أنواع الاستراتيجيات في محاولة لإخراج الصحف من السوق المريضة، بما في ذلك مشاركة المحتوى وبيعه، وحث الجمهور على الاشتراك، وتلقي التبرعات، لكنها جميعاً كانت حلولاً غير ناجعة، وبقيت الصحف في أزمتها المتفاقمة يوماً بعد يوم. إن الأخبار لا تموت، لكن صناعتها تعاني التراجع، فلا أحد يشتري أخباراً اليوم، لأن ثمة من يعرضها بشكل سهل ومجاني، ومن دون أي تكاليف، لذلك يبقى التحدي أمام رؤوس الأموال في تطوير مفهوم هذه الصناعة لمسايرة الطلب، وليس الاستيلاء على منصات إنترنت كبرى. ولا تعاني الصحافة العربية المطبوعة وحدها هذه الأزمة الوجودية، بل إنها أزمة عالمية تبدأ من الصحافة الأميركية، مع أن الرجال الذين وضعوا الدستور الأميركي كانوا يفضلون «دولة بلا حكومة على دولة بلا صحافة». غير أن هناك مرحلة متأخرة من الصحافة، وهي - لسوء الحظ- تزداد تأخراً مع مرور الوقت، مع أنها موجودة في كل بلدان العالم بما فيها الغربية، لكن التي تزداد تأخرا أكثر هي الصحافة العربية، فلا يمكن أن نصدق أن الصحافي يزداد غباء مع مرور الوقت، لكننا لا نمتلك غير بدائل من صحافة فيها من التكرار ما يزعج، وكدس كبير من المقالات التي لا تقول شيئاً، وتعجز عن صناعة فكرة جديدة. وفي الفصل الأخير من الكتاب عن العصر الذهبي للتليفزيون، يرى «نعمة» أن هناك جيلاً إعلامياً جديداً في عالمنا العربي يمارس ما سمّاه «العبث الصحافي»، ويعمد إلى التسطيح المريع، والتخلي عن صناعة الأفكار العميقة، والاكتفاء بالتكرار واستخدام لهجات ركيكة في التعبير، وكأن اللغة باتت عاجزة، بل إن المحاورين على شاشات التلفزيون لم تعد من مهامهم صناعة الأسئلة، فهم يتحدثون عن أنفسهم كشركاء في القصص، أكثر مما يقدمون للمشاهد صورة عن منجز المُحَاور نفسه. ويشخّص «نعمة» مشكلة الصحافة العالمية اليوم، في كيفية إقناع القراء بأن هذه الصحافة قادرة على تقديم محتوى يستحق أن يُدفع من أجله مال، فهناك قناعة تترسخ يوماً بعد آخر عند جيل الهواتف الذكية، بأن أخبار العالم تصله من دون أن يدفع فلساً واحداً، بينما عجزت الصحافة منذ دخولها السوق المريضة عن كسر تلك القناعة، لذلك ترقد بين فريق من المعالجين الذين يدورون حول أفكار سبق وأن قيلت، ومقترحات لا يمكن أن تجد طريقها إلى التنفيذ. وذلك، لسبب بسيط يتمثل في أن المشكلة نفسها تكمن في محتوى الصحف الذي لم يعد مشوقاً للقراء لاقتناء الصحيفة، وليس في البحث عن موارد خارجية من الإعلانات أو الضرائب المالية على الشركات الرقمية الكبرى. أخيراً، وفي سياق البحث عن حلول ممكنة، يقول المؤلف: «نتناسى أنفسنا كصحافيين عندما ندوّر على الحلول المقترحة لإنقاذ نموذج أعمال الصحافة من كساد السوق المريضة، بينما لم نتحرك بما يكفي لإعادة صناعة مهنة تحتضر في سوق رقمية هائلة، وتعيش aفي حالة تغيّر مستمر. يميل الصحافيون إلى اعتبار أنفسهم مواهب فردية، مدفوعين بغرائزهم الجريئة، يجدون ويكشفون قصص الآخرين. بدلاً من ذلك، يجب أن يفكروا في عملهم كعنصر واحد ضمن نظام شامل، لأننا كصحافيين لم نعد وحدنا في بناء غرف الأخبار وإعادة تسويقها». وفي حال تم ترك الصحافة الاحترافية لتعيش مأزقها الوجودي من دون مساعدة، فإن الجميع يشتركون في السماح باتساع «الصحراء الإخبارية»، مثلما يتركون عمالقة مواقع التواصل وأنظمة المعلومات الرقمية عرضة للانحياز والتضليل، الذي يصيب الرأي العام، ويُحدث ضرراً بالغاً في عجلة بناء المجتمعات الإنسانية. *صحافي وكاتب من مصر.