كاميرا سرية في خزانة «عثمان أبو الليرات».

ما يُشبه التدوين عبر الكتابة بالضوء ؛ هكذا يُكرِّسُ عثمان أبو الليرات عمره ووقته لاختطاف لحظة مؤجلة من دهشة الزمن ؛ لكن : (القطيف) بوصفها مدينة فارقة بل عابرة لمستوطنة بشرية يمتد تاريخها لسبعة آلاف سنة ، قد ألهمته كثيرا لدرجة الإرهاق ، بل كانت تسير به نحو مجهولٍ إبداعي حيث لانهاية للفن و لا حقيقة يمكنك القبض على جمرها المبلل بالندى رغم تعرفك كل يوم على أشياء جديدة بينما تعجز التعريف عنها أحيانا … فالفن هو أن تعرِف كل شيء و كأنك لا تعرف شيئا . …. إن القيمة الفنية التي تركها أبو الليرات ليست في خزانة الصور بل في فكرة الصور التي كان يلتقطها كتدوين ضوئي و أرشيف واقعي و جمالي في آن لحقبة من تاريخ القطيف و المنطقة الشرقية حيث تُعد هواية في أول الأمر لكنها باتت غواية ممتدة عبر الذاكرة التي تعاقبت عليها أجيال و تحولات كثيرة من جغرافية الطين إلى مملكة الفولاذ و من دراما النخيل إلى النحيلة الصناعية التي تسدُّ رمق الحدائق بحجارة الأوكسجين إلا أن اليامال و الأشرعة و خواطر الساحل الشرقي كانت لها وقعاً بصوت الطواويش و حكايا النواخذة و فطنة المعازيب . …. اختط أبو الليرات لنفسه عينا رابعة -إضافة لعدسته- كان إزميله يشكل بُعدا آخر في رسم الواقع بمشهد غريب ، حيث جَسَّدَ واقع الحياة القديمة بمنحوتات صغيرة هي أقرب للأعمال المعمارية التجريبية في الهندسة المعمارية حيث أعمال (الماكيت) الهندسي بطرق حديثة و مكائن قص cnc متصورة و خامات متنوعة من الفوم و الفايبر و الأكريلك و كذلك مكائن الراوتر التي تبتلع جميع الخامات و تنحت عليها بطريقة 3D . لكن إصرار أبو الليرات على النحت اليدوي يعني أنه أكثر اقترابا من المكونات البيئية و هي تُعمق من ثقافته الأيكولوجية التي تجعل من منحوتاته (مُقتنيات ثمينة) ليس لأنها تُجسد الواقع إنما لقيمتها الفنية و الهندسية كذلك لنوعية الخامات الخاصة التي يأبى الكلاسيكون تجاوزها مهما مرّ عليها الزمن و هي ذات أصالة و جزالة تعكس أزلية الفن الكلاسيكي و مقاومته للتلاشي . لقد عشق القرى و لم تغب حارات القلعة التي درج فيها و توارت خطواته عنها رغم تنقلاته في أزقة القطيف و في أحيائها الجديدة التي نقلت الواحة من فضائها الزراعي كي تتجه صوب التمدن بعد ثورة النفط و تحول المجتمع البسيط إلى جزء لا يتجزء من النسيج الصناعي مع النقلة النوعية لشركة أرامكو و مساهمة أبناء القرى في صيرورة التحول الكبير بينما أبو الليرات يجوب أقطاب الحياة شرقا و غربا باحثا عن شغفه بشغفه لا عن حلمه الذي يراه يتحقق في روح صامتة مع عدسة تتغير كما تغيرتْ الحياة بكل تفاصيلها مع ذلك لم يشعر بغربته . …. من وجهة نظر سقراط : «يمثل الجمال تفسيراً غائباً للأشياء و الموجودات على أن تكون الوظيفة الجمالية موجهة نحو الخير و القيم و المثالية العليا» بينما يرى أفلاطون :»أن الجمال قوة تحويلية حيث يُحوِّل البشر بإيصالهم إلى الكمال و ليس كل بشري قادرًا على التحول، وليس كل بشري يرحب بالقوة الكامنة في قلب الجمال» و هذا ما جعل أبو الليرات أيقونة لمصوري القطيف و ليس مجرد (شيخ المصورين) بحسب ما ينعته الكثيرون بعد وفاته ، إذا يحمل فلسفته الخاصة التي لعبتْ دورا وظيفيا بجمال عدسته التي حملها بأخلاقيات رفيعة في وجه اللحظات المنسابة من قلب الوجع الإنساني و شاركها أفراحه الكبرى و هذه تُلخص قدرته على استيعاب الجميع بقدر استيعابه للفن بتعدد أطيافه .أبو الليرات يمتلك روحاً متجاوزة عبر الزمن الذي استطاع -بمواهبه الخلاقة- أنسنة الكاميرا ، و بلورة سلوكه في التعبير عن حاضره و مستقبله دون انفصال عن ماضيه/الماضي الذي كرّس صوره لاستعادته و ليس مجرد التقاطه عبر مشاهداته الكثيرة و استدارته -دون التفات- للبحث في تفاصيل جديدة على مستوى الشعبي حيث يتقمص حياة الريف و يُحاول أن يسكنها بوعيه قبل التقاطاته مما جعله يبتكر بصوره حياة أخرى كما لم يغفل النُّخب و المناسبات الرسمية التي يحضرها بكامل فتنته كي يوثقها ضمن خزانته السرية . الحديث عن عثمان أبو الليرات بعد رحيله لا أعتبره (تأبينا) أو بكاءً على الأطلال إنما مُشافهة لصورته التي تنتظر أحداً يقرأها بتأويل بسيط لا أن يُفلسفها بمحازية بعيدة عن الواقع إنما لاستنطاقها عبر ملامحه التي ادخرت أجيالا و مراحل متباعدة من تاريخ الوطن و جغرافيته و مفاهيميه دون التجرد من معاصرته بل في محاولة للعودة إلى ذاكرة قديمة ليس إيقافاً للزمن و لا تعطيلا للحظة فارقا لكن الصورة لغة كونية قادرة على التعبير عن كل شيء . …. بإمكان أي مبدع أن يستحضر الغياب عبر الفن ، و أن يستخدم التقنية الرقمية من خلال التصميم الجرافيكي و الانطلاق بلوحاته عبر السوريالية و التجريد اللامتناهي و دمج آلاف الصور هي حالة تبدو سهلة لكن المشروع الحقيقي هو ما يجذبك بشكل دائم للاستمرار بموهبتك في ذات الاتجاه . و هذا ما جعل أبو الليرات مؤرخا حقيقيا للصورة الحية التي تكهن بها قبل أن يُبصرها لتكون شاهدا على ذاكرة لا على ذكرى ، و ما أصعب الذكرى التي تؤجل حلما لم يكتمل ؛ فهل مشروع أبو الليرات سنرى مكانه بعدما عرفنا مكانته ؟!! …. و ها نحن نودع الفنان الفوتوغرافي عثمان أبو الليرات و الزمن يرفع سقف توقعاتنا ؛ لأن يكتمل مشروع أبو الليرات عبر تعليق صوره و إعادته في أمكنة كثيرة سواء في متحف أو في ركن خاص بمساحات فنية أيا كان موقعها إلا أنها تُشير كما تَدِلّ و تستنطق الذي أمامك في سرد طويل يهطِل بكلماتٍ أقل و غزارة أعمق في معنى الصورة التي تتجسد أكثر بعد رحيل شخوصها …. «وداعا أبا علي» .