لماذا تتصدّر الروايات قائمة المبيعات؟

عندما نستعرض قائمة أكثر الكُتب قراءةً وانتشاراً عبر التاريخ، والتي تُعتبر من كلاسيكيات الآداب العالمية الخالدة؛ نجد أن الروايات بمختلف أنواعها؛ التاريخية والاجتماعية والواقعية والرُّعب والخيال العلمي، تتصدّر تلك القائمة، حيث طُبعت ونُشرت وتُرجمت بمئات الملايين من النسخ، ومن أهم تلك الروايات على سبيل المثال: “قصّة مدينتين” لتشارلز ديكنز، و”ملك الخواتم” لجي آر تولكين، و”الحرب والسلام” لليو تولستوي”، و”دون كيشوت” لميجيل دي ثيربانتس, وغيرها. ولو استعرضنا قوائم أكثر الكتب مبيعاً خلال العصر الحديث، والتي تنشرها جهات صحفية رصينة من أشهرها “نيويورك تايمز” و”اللوموند” و”التليغراف” ومجلّة “التايم”؛ لوجدنا الروايات لا تزال تحتلّ مراكز مُتقدّمة في الطباعة والترجمة والنشر والتوزيع حول العالم، ومن أمثلة تلك الروايات: “شيفرة دافنشي” لدان براون، و”الكيميائي” لباولو كويلو، وسلسلة مُغامرات “هاري بوتر” لجي كي رولينج، و”مائة عامٍ من العُزلة” لجابرييل غارسيا ماركيز، وغيرها. ربما كان من أسباب تصدّر الروايات قوائم الكتب الأكثر مبيعاً بصفة عامّة، تعود إلى أن الكُتب الجادّة أكثر تعقيداً من الروايات، إذ أنها تحتوي على كمّ هائل من المعلومات التي يربطها موضوع واحد، لكن لكلّ معلومة فكرة جديدة على القاريء، تجعل استيعابه لهذا القدر من الأفكار من الصعوبة بمكان؛ كالكُتب العلمية والسياسية والفلسفية والنقدية وغيرها. ولذا نجد أن أغلب القُرّاء يُفضّلون الروايات بسبب لُغتها البسيطة وأُسلوبها السهل وأحداثها المُتسلسلة وطريقة سرد الكاتب لها، كلّها عناصر جذب وتشويق للقاريء. ولعل من الأسباب أيضاً أن أغلب الروايات تُخاطب مشاعر القاريء والحِسّ الوجداني له، وتُثير عاطفته تجاه قضيّةٍ ما، فيجد نفسه مأخوذاً بهذه الرواية، ويُشاركها انفعالاته وآراءه وأفكاره، بينما تُخاطب أغلب الكُتب الجادّة العقل والفكر. ولا شكّ أن المزج بين العاطفة والفكر نادر الوجود في عالم الكُتب، إلا في بعض كُتب التنمية البشرية، التي تحتلّ المركز الثاني بعد الروايات في القائمة. ويُناقش أستاذتا الدكتور عبدالله الغذّامي في كتابه “اليد واللّسان” ظاهرة أسباب انتشار كُتب مُحدّدة بالتفصيل، بعد أن ضرب أمثلة لها محليّاً وعالمياً؛ بكتاب “لا تحزن” للشيخ عايض القرني، و”تصرّفي كامرأة وفكّري كرجل” لمُقدّم البرامج التلفزيونية ستيف هارفي، و”فنّ الاسترخاء” للطبيب هربرت بنسون. ويناقش ظاهرة قوائم الكُتب الأكثر مبيعاً، باستعراض مُلحق الكُتب في صحيفة “نيويورك تايمز”، وهو المُلحق الرائد في مجال تحديد وُجَهات الكُتب وكشفْ مساراتها وإشاعة شٌهرتها وتسمية البارز منها. لنرى أن الكُتب تتغيّر بمؤلّفيها وعناوينها، غير أن الموضوعات تظلّ متشابهة إلى حدّ بعيد، وهي في الغالب مسائل في المواضيع النفسية من جهة، والفضائحية والجريئة وكسر المحذور من جهة أُخرى. على أن هناك بعض المؤشّرات التي تُساعد في تحرّك كُتبٍ مُعيّنة في سُلّم الأفضليّات التسويقية، إذ يقوم اسم المؤلّف كعاملٍ مُهمّ، وكذلك موضوع الكتاب حين يلامس نقطة ثقافية حسّاسة في المجتمع، وكذلك البساطة اللّغوية، والأسلوب الذي يعتمد على القصص والحكايات وضرب الأمثال.. كلّ ذلك يوضّح أن مُصطلح “الأكثر مبيعاً” هو مُصطلح في التسويق، وليس مُصطلحاً في الثقافة والفكر. ويختم الدكتور الغذامي نقاشه بالقول بأن: “الكُتب الأكثر مبيعاً في الغرب، غالباً ما تكون كُتباً ساذجة وسطحية، وليست كُتباً في المعرفة، ولا في الثقافة العُليا، ولا في الثقافة الجادّة.. وكثيراً ما يترك الناس هذا النوع من الكُتب على كراسي الانتظار في المطارات، وعلى مقاعد الطائرات والقطارات، للتخلّص منها بعد التّسلي بها”. لا شكّ بأن الرواية الأدبية تظلّ كجنس أدبي مُتفرّد لها تميّز لافت؛ لما يعتلج بداخلها من تجليّ فكري، وإبداع شعوريّ ووميض ذهنيّ، فما تُقدّمه من رسائل ضمنية أو ظاهرية يفُكّ طلاسم الحياة وتعقيداتها، وتصرّفات البشر بغرائبيتها، ويفتح الباب على مصراعيه للقاريء لولوج أماكن وأزمنة قد يستحيل عليه ولوجها أو حتى الاقتراب منها. ولكن هل باتت المعلومات التي توجد في أغلب الكٌتب الجادّة لا تستهوي القُرّاء ولا تُجاري ميولهم؟ أم أن غالبيتهم أصبحوا يبحثون عن نوعٍ من الثقافة السطحية السهلة الاستهلاك، لدرجة أنهم أصبحوا لا يٌطيقون البحث ودراسة المعلومات، وليس لديهم الوقت الكافي لإعادة القراءة ومحاولة الفهم والمراجعة والتدوين؟ الحقيقة أنه إذا كانت الروايات غذاءً للروح، فإن أنواع الكُتب الأخرى تحتوي على غذاءٍ للفكر والعقل أيضاً، ولا يجدر الاستغناء عنها للقاريء الحصيف.