فيلم «أوبنهايمر» للمخرج كريستوفر نولان ..

سقوط العالِم في شَرك السياسة .

في فيلم “أوبنهايمر” (2023)، للمخرج كريستوفر نولان، هناك لحظة محورية تكاد تلخص العمل وتعقيده في آن واحد. عندما يجلس ج. روبرت أوبنهايمر، العالِم اللامع الذي يؤدي دوره “كيليان ميرفي” في مواجهة مع ضميره، يتساءل بصوت خافت: What have we done”! “ماذا فعلنا؟!”. هذه العبارة، التي تأتي بعد نجاح تجربة القنبلة الذرية، هي صرخة تلخص الصراع الأخلاقي والفلسفي الذي يشكل قلب الفيلم، إنها بطريقة ما تشبه تلك اللحظة في الفيلم العربي “العار” (1983) نستعيدها هنا، حين سأل محمود عبد العزيز، نور الشريف عن حرمة الحشيش، فجاوبه نور: “لو كان حلال أدينا بنشربه، وإذا كان حرام أدينا بنحرقه”. نولان يقدم لنا نفس المعضلة: إذا كانت القنبلة الذرية إنجازاً علمياً، فسنستخدمها. وإذا كانت أداة دمار، فكيف نتعامل مع تبعاتها؟ كريستوفر نولان، كمخرج ومؤلف سينمائي، يشتهر بأسلوبه المعقد الذي يمزج بين الصراعات الداخلية للشخصيات، والمواضيع الفلسفية العميقة. الفيلم هو تأمل في السلطة، والمسؤولية، والثمن الباهظ للطموح العلمي. نولان، كما في أفلامه السابقة مثل “Inception” و”Dunkirk”، يستخدم الزمن كأداة درامية. يقسم الفيلم إلى خطين زمنيين: الأول بالألوان، يركز على حياة أوبنهايمر وتطوير القنبلة، والثاني بالأبيض والأسود، يعرض التحقيقات السياسية التي تلت الحرب العالمية الثانية. هذا التقسيم انعكاس للصراع بين الحقيقة العلمية والتلاعب السياسي، وبين الإنجاز والندم. نولان لا يكتفي برواية قصة إنما يطالب المشاهد بالتفكير، وربما بالتشكيك. مثلما يضع أوبنهايمر في مواجهة مع القوى السياسية والعسكرية التي تستغل إنجازه، يضع نولان الجمهور في مواجهة مع أنفسهم: هل العلم محايد؟ وهل العالِم مسؤول عن تبعات اكتشافاته؟ هذا التساؤل يتردد في كل مشهد من لحظات النشوة العلمية في لوس ألاموس إلى مشاهد الدمار في هيروشيما وناجازاكي، التي يختار نولان ألا يُظهرها مباشرة، بل يتركها تتردد في خيال أوبنهايمر وفي ضمير المشاهد. مرايا الصراع الإنساني في “أوبنهايمر” هو كيفية استخدام نولان للشخصيات كمرايا للصراعات الأخلاقية والفكرية. أوبنهايمر نفسه ليس بطلاً تقليدياً، هو عبقري متعجرف، عاشق للشعر والفلسفة، غير أنه أيضاً ضعيف أمام طموحه الشخصي. كيليان ميرفي يجسد أوبنهايمر كرجل ممزق بين فخره بإنجازه وشعوره بالذنب تجاه تبعاته. هذا التناقض يتجلى في مشهد خطابه بعد نجاح التجربة النووية، حين يتحول تصفيق الجمهور تدريجياً إلى صراخ الضحايا في ذهنه. إنها لحظة نولانية بامتياز: مزيج من الدراما النفسية والتصوير البصري المذهل. الشخصيات الأخرى، مثل لويس شتراوس (روبرت داوني جونيور) والجنرال ليزلي غروفز (مات ديمون)، تمثيل للقوى التي شكلت مصير أوبنهايمر. شتراوس يمثل الحسد السياسي والطموح الشخصي، بينما غروفز يجسد العقلية العسكرية التي ترى القنبلة كأداة نصر وليس كسلاح دمار. حتى الشخصيات النسائية، مثل زوجة أوبنهايمر، كيتي (إيميلي بلانت)، ومعشوقته جين تاتلوك (فلورنس بيو)، تضيفان أبعاداً إنسانية للقصة. نولان، المعروف بحبه للتصوير يستخدم كاميرات IMAX لإيجاد تجربة بصرية مثيرة. المشاهد في لوس ألاموس، مع المناظر الطبيعية الصحراوية الشاسعة، تتناقض مع الغرف المغلقة للتحقيقات، وهذا يعكس التوتر بين الحرية العلمية والقيود السياسية. كذلك الموسيقى التصويرية لـ “هودفيغ غورانسون” تضيف طبقة أخرى من التوتر، حين تمتزج الأصوات الإلكترونية مع الإيقاعات السريعة لتعكس الضغط النفسي الذي يعيشه أوبنهايمر. على الرغم من قوة رؤية نولان، فإن “أوبنهايمر” ليس خالياً من العيوب، أسلوب نولان المعقد قد يكون مرهقاً لبعض المشاهدين، خاصة مع مدة الفيلم الطويلة (ثلاث ساعات). السرد غير الخطي، رغم أنه فعال في بناء التوتر، قد يشتت انتباه من لا يفضلون هذا الأسلوب. كما أن تركيز الفيلم الكلي على أوبنهايمر كفرد طغى بالمجمل على الفيلم، وبتلميحات تكاد لا تذكر على السياق الأوسع للحرب العالمية الثانية، مما يجعل الفيلم يبدو أحياناً منفصلاً عن الواقع التاريخي. علاوة على ذلك، اختيار نولان لعدم إظهار الدمار في هيروشيما وناجازاكي مباشرة قد يكون قراراً مثيراً للجدل. من ناحية، هو يعزز التركيز على الصراع الداخلي لأوبنهايمر، لكنه من ناحية أخرى قد يُنظر إليه كتجاهل لمعاناة الضحايا اليابانيين. هنا يظهر نولان كمؤلف يفضل الرمزية على الواقعية، وهو خيار قد لا يرضي الجميع. أوبنهايمر ونولان في مواجهة التاريخ في النهاية، “أوبنهايمر” في الحقيقة هو أكثر من مجرد فيلم عن القنبلة الذرية. إنه تأمل في الإنسانية، في الطموح، وفي الثمن الباهظ للتقدم. نولان، ينجح في تقديم عمل يجمع بين العمق الفلسفي والترفيه السينمائي، لكنه يتركنا مع أسئلة بلا إجابات واضحة. مثلما يتساءل أوبنهايمر: “ماذا فعلنا؟”، يتركنا نولان نتساءل: “ماذا سنفعل الآن؟”. في هذا السؤال يكمن جوهر الفيلم، وجوهر رؤية نولان كمؤلف يتحدى العقل والقلب معاً. لكن مهما يكن، علينا أن نتفهم أن العديد من الأفلام تُراقب للتلميع قبل العرض.