المَّغّش

لقد عرفت البشرية اللحم والشحم منذ أزمنة قديمة جدا ، ثم عرفوا بعد ذلك الكثير من الأطعمة لكن بقي اللحم والشحم من الأولويات في طعام الشعوب ، فإذا غاب الشحم واللحم من موائد الناس فذاك دليل على الفقر والحاجة . إن نظرة بسيطة على تاريخ بعض الشعوب ستدلنا على الحفاوة باللحم والشحم ، ولعل هذه الحفاوة في أصلها ذات ارتباطات دينية قديمة يمثل الفداء أو (( القرابين )) أساسها ((فالقربان يحفظ الحياة ، والصلاة تطرد الشر )) في ما قبل الإسلام ــ حسب الروايات والقصص التاريخية ــ كانت القرابين حاضرة ، من الغنم والضأن، والإبل والبقر ، وهذه القرابين تختار بعناية ، فلابد للقربان أن يكون ممتلئاً بالشحم واللحم ، حتى يكون مثالا لفعل الفداء والخير ! الغريب في شعر ما قبل الإسلام يحضر نحر الذبائح كرما ، ونادرا ما ذكر النحر لغرض آخر ، إلا في معلقة الشاعر إمريء القيس ، حيث يعقر مطيته للعذارى، معتبرا فعله من قبيل العمل الصالح في دارة جلجل : ألا رب يوم لك منهن صالح ولا سيما يوم بدارة جلجل ويوم عقرت للعذارى مطيتي فيا عجبا من كورها المتحمل فظل العذارى يرتمين بلحمها وشحم كهداب الدمقس المفتل إن الصور التي يقدمها إمرؤ القيس من خلال (( عقر المطية )) (( للعذراى )) وكون فعله مرتبطا بال (( صالح )) ، من دون ذكر وصال مع (( العذارى )) ، في وقت تفيض المعلقة بالوصال ــ بتجلياته الجسدية وغير الجسدية ـ مع حبيباته اللواتي لم يعقر لواحدة منهن ولو دجاجة ، يفتح أبواب الأسئلة حول الأسباب التي دعت إمرؤ القيس لعقر مطيته للعذارى ؟ في مجلة الكرمل كتب علي الشوك عن العذارى يقول روبرت غريفز إن أفلاطون ماثل بين الآلهة أثينا ( ظهيرة مدينة أثينا ) والآلهة الليبية نايث Neith ( وهي باللغة الكنعانية الالاهة عناة) التي تنتمي لمرحلة سابقة لمفهوم الأبوة ، وكان لنايث أو عناة معبد في سايس Sais وكانت كاهنات نايث العذراوات يتبارين كل عام ــ كما يقول هيرودوتس ــ رجاة الفوز بمركز الكهانة الأولى ، ومن المعروف أن المآزر المصنوعة من جلد الماعز كانت الملابس التقليدية للبنات الليبيات، ومما له دلالة أن Pallas تعني عذراء أو شابة ، ويقول هيرودوتس أيضا (( لقد استعار اليونانيون ملابس ودروع أثينا ــ الالاهة ــ من النساء الليبيات اللواتي كن يرتدين هذه الملابس نفسها ، سوى أن ملابسهن الجلدية كانت تهدب بسيور جلدية )) ويعقب غريفز قائلا : (( وما تزال الفتيات الأثيوبيات يرتدين الزي نفسه الذي يطرز أحيانا بالودع أو الصدف الأصفر )) عندما قرأت عن عذارى الآلهة أثينا ، واللواتي أخذن ملابسهن من عذارى الآلهة عناة في ليبيا ، والشبه بينهن وبين الفتيات الأثيوبيات في اللباس ، جاء في بالي العذراوات اللواتي يعملن كاهنات في المعابد الوثنية ، أو راهبات في المعابد المسيحية ــ على زمن امرىء القيس ــ في الجزيرة العربية!! إن الالاهة نايث (( عناة )) عند الليبيين هي الالاهة (( مناة )) والتي كانت تعبد في الجزيرة العربية ، فهل يكن (( عذارى )) الشاعر امرىء القيس من الكاهنات في أحد المعابد الآلهة(( مناة )) أو الآلهة (( العزى )) ، أو أية معبد من معابد الآلهة الوثنية المنتشرة في زمن امرىء القيس ! في شعر إمريء القيس تحضر الثريا والتي تعتبر من عناوين الخصب في المعابد الوثنية في المجتمعات الزراعية : إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح المفضل كأن الثريا عُلِّقَت في مَصامِها بأمراس كتّانٍ إلى صم جندلِ كما يحضر البعد المسيحي في قصيدة امرىء القيس: تضيء الظلام بالعشاء كأنها منارة ممسي راهب متبتل يضيء سناه أو مصابيح راهب أمان السليط بالذبال المفتل فهل تلك ال (( عذارى )) راهبات ؟ هذا أمر يستبعد! فالديانة المسيحية كانت حاضرة في الجزيرة العربية ، وعليه ـ في الحالين ــ سواء كن (( عذارى )) امرىء القيس كاهنات ، أو راهبات فإن البعد الديني حاضر في فعل الشاعر إمرىء القيس ! لقد زكي امرؤ القيس فعله في يوم صالح (( ألا رب يوم لك منهن صالح )) وأكد على تزكيته للزمان بتزكية المكان (( ولا سيما يوم بدارة جلجل )) ، لكن هذه التزكية تبقى مموهة ، وكأننا أمام حالة من الدين الباطني لدى عذراوات الشاعر إمرىء القيس، وإذا صدق حدسي ــ بباطنية دين العذراوات ــ فإن رميهن باللحم والشحم تدل على تسهيمه (( تقسيمه )) على النصب من أجل استدراج الفقراء للأخذ ، وحث الأغنياء على الفداء ، وقد فعلها الشاعر إمرؤ القيس فعقر مطيته فداء لدين العذراوات ، ثم ذهب بعد ذلك لصاحباته! فهل حدسي صادق ؟ ليس بالضرورة أن يكون الحدس صادقا بقدر ما يكون قريبا من الشعر، لكن ما دخل الحدس باللحم والشحم والشعر؟ لقد بدأت الكتابة عن اللحم والشحم وفي بالي الكتابة عن (( المَّغش )) بتشديد الميم وفتحها ، وهو الطبق الجازاني الذي حددته هيئة فنون الطهي التابعة لوزارة الثقافة في المملكة العربية السعودية ، وبما أنني أكتب عن الأطعمة أو المأكولات مصحوبة بنظرة للآلهة القديمة ،ومواسم الخصب والحصاد ، فإن هذه الآلهة بكل عوالمها قريبة من الشعر ! إذا رجعت إلى أكلة (( المغش )) وهو إناء حجري قطره في حدود عشرة سم وارتفاعه في حدود عشرين سم ــ قد يزيد أو ينقص القطر أو الارتفاع ــ يوضع فيه اللحم والشحم ويضاف اليه قدرٌ من الماء والملح والبهارات ثم يوضع في التنور لساعات ــ حسب النار ــ هذه الطريقة قريبة إلى طقوس الحياة القديمة ، حيث كان للحم هالته الحمراء ، وللشحم شعاعه في (( المغش )) ، لذلك اكتسب هويته من خلال أكله مع عيش الذرة أو الدخن ــ تحديدا الخمير ــ ، لكن (( المغش )) في هذا الزمن بلا هوية ! لقد أضيف إلى (( المغش )) الخضار ــ طماطم، بامية ، بطاطس ، كوسة ــ والتي ذهبت بهالة اللحم الحمراء ، وشعاع الشحم في ((المغش )) ، وتحول (( المغش )) إلى أكلة عابرة من أكلات الترانزيت !