
كتب هيثم حسين نفسه في منصة إكس، عندما صدرت روايته «هكذا عشتُ الجحيم»: “سيرة كتبتها بأصابع تحترق وقلب يرتجف – بالمعنى الحقيقي لا المجازي – عن حادثة الاحتراق التي تعرّضت لها قبل ربع قرن أثناء خدمتي الإلزاميّة في سوريا. ما من بطولة في الحريق، وما من خلاص مضمون في الكتابة. كلّ ما هناك أنّني حاولت ألّا أترك الألم ينفرد بنفسه، أن أراقب ندبي وحروقي كإشارة نجاة وأمل بالحياة. كلّ سطر في هذا الكتاب هو محاولة لئلا أموت مرّتين: مرّة في الحريق وأخرى في الصمت. “هكذا عشتُ الجحيم”، جرحي المفتوح منذ ربع قرن، كتاب عمّا تبقّى منّي بعد الحادثة، وما تبقّى فيّ من آثارها التي يستحيل أن تُمحى من ذاكرتي وجسدي.” منذ هذه العتبة الأولى ندرك أننا أمام شهادة مكتوبة بدم الجسد المحترق لا بحبر الكلمات. نص يواجه الذاكرة والروح في لحظة عري مطلق، حيث تتحول الندوب إلى لغة ثانية تروي ما لا يستطيع اللسان أن ينطقه. يقول حسين: “الندوب على جسدي تذكّرني دائماً بالحقيقة المؤلمة، أنّ الحياة ليست قابلةً للتعويض. وأنّ حياتي تغيّرت إلى الأبد ولن أعود كما كنت.” بهذا الاعتراف يضع القارئ أمام جوهر الرواية: الجروح لا تُغلق حتى حين يلتئم الجلد. إنها تتحول إلى علامات لا تُمحى، تُذكّر الناجي بأن الحياة التي كانت قد انتهت، وأن القادم مشوب بالقلق من استعادة دور طبيعي ربما صار مستحيلاً. الرواية هنا جسد يواجه ناراً، ووطن ينهشه الاحتراق ذاته. فالحكم الأسدي حوّل المستشفيات والإدارات إلى مسارح للفساد واللامبالاة، حيث يُدار الموت ببرود لا إنساني. يصف حسين مشهداً من موت شاب في العشرينيات: “بعد أن تأكّدوا من أنّه فارق الحياة أخرجوه من الغرفة، وبدأوا بتنظيف المكان وإعادة ترتيبه كأنّ شيئاً لم يكن…” الموت يتكرر كإجراء روتيني، والأرواح تُعامل كأرقام يمكن مسحها بماء ومسحوق تنظيف. صورة تختصر تلاشي القيمة الإنسانية تحت دولة جعلت من حياة الفرد ملفاً مهملاً في سجلّ إداري. وفي قلب هذه التجربة يحضر سؤال الفلاسفة عن معنى الجحيم. فـ كارل يونغ يرى أن “الجحيم هو الانتظار”، وهو انتظار عاشه حسين بين الاحتراق ومحاولة العودة إلى الحياة. أما توماس هوبز فيعتبر أن “الجحيم هي الحقيقة التي ستُرى بعد فوات الأوان”، وهي الحقيقة التي لمسها الكاتب حين أدرك أن حياته تبدلت إلى الأبد في لحظة واحدة. ويضيف نيل غيمان: “أعتقد أن الجحيم هو شيء تحمله معك وليس مكاناً تذهب إليه”، وهذا ما يجسد تجربة حسين، جحيم مقيم في الجسد والذاكرة يُرافقه حتى في منفاه البريطاني. لذلك عبر هيثم حسين عن جحيمه الأزلي بقوله «الزمن لا يرمّم شيئاً، فقط يبدّل أماكن الألم، يدرّبه على التخفّي، ويمنحه قناع الاعتياد. يقال إنّه كفيل بالشفاء، لكنّي لم ألمس ذلك. الزمن يروّض الجرح ليبدو أقلّ حدّة، لكنّه لا يبرّئه». ومع ذلك لا يغيب صوت المقاومة. يقول الكاتب: “مرّةً جديدةً، أظهرت لي تلك التجربة أنّ السخرية من الذات قد تكون أقوى من أيّ تحدٍ قد يعترضنا.” نمط السخرية لا يهدف إلى إنكاراً للألم، هي محاولة ووسيلة لإبقاء الروح واقفة في مواجهة القهر. ضحك يجاور الدمع ليمنح الحياة فسحة توازن وسط القسوة. ثم تبرز صور حميمية تمنح النص بعداً آخر، مثل صورة الجدة وهي تخيط أثوابها بحبّ وصبر: “كانت جدّتي تبدأ عملها بحماس وهدوءٍ… تضيف لمساتها الخاصّة بعنايةٍ فائقةٍ… وعندما تنتهي من خياطة الثوب، تراه يبدو وكأنّه قطعةٌ فنّيّةٌ نابعةٌ من قلبها.” الخيط والإبرة في مواجهة النار والرماد. صورة تذكّر أن الجمال قادر على إعادة المعنى للذاكرة، وأن الحنان العائلي يظل خط الدفاع الأخير ضد الخراب. ومن هنا يتجاوز النص حدود الفرد ليطرح سؤال الوطن. الكاتب الذي حمل ندوبه إلى منفاه، وشهد سقوط النظام الذي شكّل أحد وجوه مأساته، يتساءل بمرارة: هل يمكن للأوطان المحترقة أن تتعافى كما يتعافى الجسد؟ أم أن رمادها أثقل من أي محاولة للنهوض؟ «هكذا عشتُ الجحيم» جزء من سيرة روائية للكاتب هيثم حسين، ليكمل ما سبقها من روايات له: «قد لا يبقى أحد» و»العنصري في غربته»، تتميز بأنها كتبت بأصابع من لهيب، ممتلئة بالألم والقهر، مشبعة بالقلق والخوف من معنى العودة. شهادة على جسد احترق ووطن ذاب في جحيمه. صفحاتها مشدودة إلى إصرار خفي على البحث عن لحظة ضوء، ولو في ابتسامة ساخرة، أو غرزة إبرة، أو نفس هواء يُستعاد كأنه هبة كبرى. إنها رواية تُجاور الفلسفي بالحميمي، السياسي بالوجودي، السخرية بالدمع. وحين يتحول الجحيم إلى نص، يغدو النص مرآة نرى فيها أنفسنا وأوطاننا التي تبحث عن شفاء، عسى لا يكون عسير المنال. *كاتب وروائي