أول يوم دراسي.

لا أتذكّر شكل أول يوم دراسي، فقد كان ذلك منذ زمن بعيد، لكنني أستعيد ملامح من تلك المرحلة الابتدائية، حيث كانت مدرستنا تقع بين حزمة من بساتين المدينة المنورة. كما أتذكّر أنني كنت أتقاسم عصير الميرندا مع ابن عمي، وكان أطول مني، وذلك في صالحنا حين يكون طابور المقصف مزدحماً. كان أخي الأكبر يصحبني على دراجته إلى المدرسة، بين مطاريق تلك البساتين الفاتنة التي أبدع المؤرخ المديني محمد كبريت الحسيني المتوفى سنة 1070هـ في وصفها في كتابه “ الجواهر الثمينة في محاسن المدينة”، والذي حققه الأديب أحمد سعيد بن سِلم، ثم خرج بتحقيق ثانٍ للدكتور عايض الردادي. ولا أعتقد أنه –على حد اطلاعي– هناك كتاب آخر يضاهيه من حيث الأسلوب الأدبي في وصف مزارع المدينة ومعالمها وروابيها الغنّاء، ولا من حيث كثافة الأشعار التي تضمنها وقد قيل في بعض نواحيها: سقى الله في أرض العوالي منازهاً قطعتُ بها دهراً لذيذاً من العمر لم تكن هناك جوالات ذكية ترصد تلك المشاهد كما نفعل مع أبنائنا اليوم؛ نصوّرهم في مختلف محطات حياتهم، وحين يخرجون إلى أول يوم دراسي نحب أن نوثّق تلك اللحظات تشجيعاً لهم وربطاً بالمدرسة التي تمثل مستقبلهم، فهم الأمل والبذرة وأركان نهضة وطننا العزيز في كل المحافل. أما في جيلنا، فكان الأمر مختلفاً تبعاً لاختلاف ظروف الحياة، لكن الشغف بالتعليم حاضر. إذ في المدرسة أشياء أخرى تستحق الحديث، بخلاف (الفَلَكَة)وكانت نصيب كل من يخالف النظام أو يخلّ بواجباته. لا زلت أذكر بيوت الحارة المجاورة حين كان أستاذ الرسم يخرجنا لنرى الطبيعة من حولنا، ويطلب منا أن نستذكر ما شاهدناه ثم نرسمه. ومنذ ذلك الحين، ظلّ مشهد البيوت والأشجار والنخيل والسماء الملبدة بالغيوم وسرب الطيور العابر عالقاً في ذاكرتي، حتى إنني –رغم تخصصي في اللغة الإنجليزية– أحب رسم هذا المشهد إلى اليوم. وقد قال لي صديق ذات مرة إنه شاهد إحدى رسوماتي معلّقة على جدار المدرسة. كبرنا وتعلّمنا وواكبنا الحياة وما استجدّ فيها، كما يفعل أبناؤنا الذين يعيشون مرحلتهم التعليمية وقد دخلت طور الرقمية ثم الذكاء الاصطناعي، وتجدّدت فيها المناهج وفق معطيات العصر. ومع بداية كل عام دراسي، نشاطرهم تلك اللحظات، ونطلّ معهم على بعض محطات العمر. ________ هامش -الفَلْكَةُ: عند طلاب المدارس تعني عملية ضرب الأرجل بالخيزران بعد رفعها بالحبل والعصا.