
مَن يطالع رواية «مسرى الغرانيق في مدن العقيق» لأميمة الخميس تستوقفه منذ الوهلة الأولى أبيات الشِّعر التي تتخلَّل النثر، أو بالأحرى تدخل معه في حوارية علنية، هذه الأبيات في الحقيقة تُعرف بشهرتها في الذاكرة الجماعية الإبداعية، الجماعية العربية، باعتبارها تمثِّل الصوت النفسي المكبوت المقموع المتوسِّل بآليات التخييل الشِّعري للتعبير عن وجوده، في عالم يحاصر فيه الإبداع، وتشلُّ حركته مظنَّة تجاوزه لقواعد الشريعة وحدودها: قُلْ للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت لناسك متعبِّد؟ قد كان شمَّر للصلاة ثيابه حتى خطرت له بباب المسجد ردَّي عليه صلاته وصيامه لا تقتليه بحق دين محمد هذه الأبيات الشّعرية التي كان لها موقعها في رواية «مسرى الغرانيق» تسجِّل تاريخ المجتمع العربي منذ المرحلة الجاهلية، وتفشي الغزل فيه بقسميه العذري والإباحي، وهكذا فقد مثَّلت الصوت الغزلي الجمالي المموسق، المتأبِّي عن الانحصار والانحسار داخل أطر ضيِّقة، وداخل مؤسسة دينية تضرب حدودًا وقيودًا على الكلم. وإذا ما أمعنَّا النظر في رواية «مسرى الغرانيق» نلحظ أن التنافذ الجمالي عالي النطاق، ومتَّسع الدوائر، ومفتوح المدارات بين المتكلِّم الباثِ (مزيد الحنفي) الذي يتلبَّس منثوره الكلامي بالقول الشِّعري الموقَّع المموسق ومتلقٍّ يقظ الروح والإحساس يستقبل الشِّعر بروح شفافة، وقلب عارٍ من الحجب، فيستشعر الجمال في جوهره العميق، وتمثِّل هذا القارئ المراد (حمدونة)؛ إذ تقول: «فصاحت حمدونة: يا للجمال! هلَّا كتبت لنا أيها الوضيء أبياتك على رقعة؛ لأدفعها إلى الفتيات ينقشنها فوق العباءات الحريرية السوداء» وتواصل هذا السجال الشِّعري بين لذَّة القول ومشاركة المستمعين للشّعر وجدانيًّا، وتفاوت تلقِّيهم؛ طبقًا لاختلاف مستوياتهم المعرفية، ورهافة حسّهم الجمالي، يقول الرَّاوي المتكلِّم: «أضفت ما زلت مبهور الأنفاس: هناك أيضًا أبيات جميلة لنقشها على العباءات، وسردت أبياتًا لأبي نواس التي عادة ترافق ظهور (الزاهرة) أمام جلاسها»: ألا يا قمر الدار ويا مسكة العطار ويا نفحة نسرين ويا وردة الأشجار ويا كعبين من عاج وياطنبور شطار وياعرش سليمان إذا همَ بالأسفار وكعبة بيت الله ذا ركن وأستار لقد أصبحت من حبك بين الخلد والنار هذا وقد تمَّ تلقِّي هذه الأبيات بإيجابية وتأثُّر واضح، جسَّده موقف (الزاهرة) ومقولها: «ازداد اتساع ضحكة الزاهرة، فيما ترنَّمت رفيقتها معي بالشطر الأخير»، وهمست: «هل أنت بغدادي؟ فيما اكتفت الزاهرة بتحريك أهدابها بغنج، وهي تسرق النظرات إليَّ». وهكذا فقد بان التفاعل الروحي الذي شاركت في تشكيل معالمه (الزاهرة) ورفيقتها (حمدونة)، وهذا دليل على أن الأثر المترتِّب عن هذا الشِّعر في نفوس المتلقِّين كان أعمق من الأبيات السالفة؛ لأن الشِّعر لامس شغاف قلب (الزاهرة) إضافة إلى (حمدونة). لقد استرجعت (أميمة الخميس) الذاكرة الثقافية والأدبية الفكرية عبر ما جرى على لسان (سعد) المخمور على الدوام، من أبيات شعرية ساقها في إطار محاورة مع زوجته (سعاد)، فقد تلا على مسامعها أبيات من محفوظه، يقول: فإن تسألوني بالنساء فإنني خبير بأدواء النساء طبيب إذا شاب شعر المرء أو قلَّ ماله فليس له في ودهنّ نصيب ولعلَّ هذه الرسالة الشِّعرية التي بثَّها (سعد) لمخاطبته (سعاد) شكَّلت مضمونًا سلبيًّا تلقَّته مخاطبته بأسف وحزن وأسى، فقد اعتبرت أن ما اعتبره صراحة على اعتبار مصداقيته فهو صراحة فجّة، ثم إن المرأة كائن لطيف تجذبه المعاملة الحسنة والفرحة به والإطراء أكثر مما ستقطبه المال أو البيت أو الجنس أو حتى الوجاهة. *مؤلف كتاب «الحوارية في روايات أميمة الخميس» وهو في الأصل دراسة نال بها الباحث درجة الماجستير في الأدب والبلاغة والنقد.