بابٌ مفصليّ

لم يعلّمني أحدٌ مواسمَ الكلام ومتى ينهمر أو ينقطع. ولعلَّ بلاغةَ الجرجاني تعجز عني؛ فــ (النفس) بيننا تعاني من شيخوخة تسعة قرون، وما يقع في نفسي لا أقطعه بفنون الكلام بقدر ما أضرب فيه برجلي آلاف الخطوات، وفي مكانٍ لا يتجاوز مترًا واحدًا، أمشي فيه وحيدةً بصمتٍ موحش، وهدوء يُلغي الزمنَ؛ فيزيدني مسافةً عما أريد. أظنّ الجرجاني سيفهم العيّ الذي يتلبَّسني لو رآني في مكاني كيف أغادِرُهُ ولا أغادر، حبسي قدمان لا تمضيان، والخطو المعلَّقُ حياتُنا العصرية! … ولكم أشتاق حديثًا معكَ أبدأهُ بـ (كيف حالك)، ويعلَقُ في ذهني دائما كخطواتي التنفيسية على أيّ جهاز… أشتاق إلى حديثك الذي تلمِسُ فيه بيديك الوهميّتين عُمقَ المسافات الباردة التي أقصَتني؛ حيث تعرفني من صوتي رغما عن براعة شيخنا وقواعد الكلام والبلاغة. (كيف حالك) جملة سهلة وعابرة، لا تعني شيئا لمعظم منتهِكي روعتها، لكنها في حالتي شاقّة، كاختبار مفاجئ يحدد مصيرا دون أدنى استعداد. يبدو مجرد التفكير في هذا السؤال بمثابة خطوةً أولى، مسافة ضئيلة يعرف قيمتها صغيرٌ يحبو، ويدرك كلفتها جيدا بعد أن تشجَّ رأسه. فللخطوة ثمن دائما. وصدقني حين أصفها بكونها خطوة توازي بوابة زمنية؛ يبحث عنها فريق كامل من خيرة العقول... خطوة لا تكمُنُ صعوبتها في استحالتها بل في كل ما يخصّها. هي بحدّ ذاتها مشكلة قبل أن تكون فكرة، ولا يمكن تجاهلها إلا بقدر ما نتجاهَلُ بابًا مفصليَّ الوجود داخل البيت. قد تتجاهلُ الفكرةَ وأنت تتذكَّرُ تلك الأبواب التي نبقيها مغلقة من أجل الضيوف. أبواب يمكن تحاشيها دخولا وخروجا وسكنًا، ولا تحتوي على شيء ذي قيمة في نفسه، بل لما يمثّله العزلُ والسكون من قيمة… قد تطمئِنُّ لأمانِكِ الدائم بتجاوُزِ مثل تلك الأبواب دون فتْحٍ، ولا يحتاج ما دونها إلى اهتمام مستمر فهي لا تخصك بالضرورة... قد تظن اللصَّ يقبع بداخلها حين يقتحم المنزل، وتطمئن أيضا مهما عاش في الجدران كبطل قصة إيميه، يتنقّل بخفّة شبحيّةٍ، وبُحريّة مطلقة يلغيها العقل، الأمر ممكن ما دام المكان بعيدا ولك حيّزك الخاص دونه، فهو في النهاية يخص ضيفا ما مجهول الحضور، ونحن نجيد التعايش مع ما لا يزعجنا أيضا! فلا تكترث بأطيافه مهما امتصّته الزوايا وخرجَ لك، أو صار شبحا تسمع طقطقَته في الظلام وهو يضحك على هروبك منه... تعرف أن وقوع ذلك مستحيل، وقد تستمتع بعيش ذلك الجنون والخروج منه معافى. قد ترى ذلك المكانَ مناسبا ومرتبا ما دمتَ غير مسؤول عنه، وأنّ أي ضيف سيتأقلم ما إن دخلَه... هي أفكار يثيرها الصمت، وتتناسل بكثرةٍ أسوةً بسيرةِ من لا يشغله شأن ما… ألف فكرة وفكرة لا تضطر إلى التفكير بها حتى ما دامت لديك خياراتٌ تجاه الأبواب المتعددة... ورغما عن ألف فكرة وفكرة تقرع رأسي عن أبوابك من بعدي وأنا أتأمل بابي، وأحذفها وأعود لفكرتي حتى أقرِّرَ شيئا يخص خطوتي؛ تلك التي تعود إليك في كل مرة بوضوح، وتضلّ مني بضبابية مجنونة كأفكار الأبواب... أفكر في هذه الخطوة كأنني منزوعة الأمان أبدا، خائفة لكنني مضطرة لعبور ذلك الباب في منزلي اضطرارا مرهِقًا قد يوقِفُ الزمنَ ويعيشُ الخوفَ حياةً... إنك لا تعلم حال بعض الأبواب وإنْ استنطقتَها... لعل بابي وحيدٌ ولا أملك خيارًا آخر مثلك للضيوف، ولعلّ الباب الآخر محاطٌ براصدٍ حقيقي يقلِقُ خياراتي، أو راصد وهميّ كبابِ بيسوا... يمكن أن يكون بابًا يحرسُهُ شيء كحشرة كافكا، ويمكن أن تخيفني تلك الحفرة الزمنية المندسّة قربه، هوّة تفتح فمها فجأة لتلقَفَ قدمي وتلقي بي في جحيم ماكِرٍ… حينها سأجِدُ تبريرا لتلك الضربات التي تكاد أن تنتزع قلبي قبل المرور بجانب الباب، فأنا لم أجد بعدُ معينا أو مرشدا كما وجدتْ (أليس) في بلادها العجيبة. إنّ سؤالاً مثل (كيف حالك) أيها البعيد القريب يوقظني من كوابيسي ويوقعني في أخرى تبتلعني معها، يأخذني من هلوسات الزمن والأبواب وطقوس الخطوة الأولى نفسها إلى وهْمٍ لا آخر له... وهو ليس سؤالا بقدر ما هو استهلال، وجوابه لا يشبع فضولا بقدر ما يرويني. ثمة أوجاع متراكمة من جفاف الحال بيننا يمطرها السؤالُ باطمئنانٍ وفير؛ فتنعمَ مهجوراتي بأحوال الحياة مجددا... لو كانت هناك خطوة ستبدأ حتما بمثل هذا السؤال... بنبرة هادئة وصوت محكوم في التيه والضلال، صوت منسلّ من نسيجِ بلاغةٍ تجهلني بصفتي كائنا معاصرا، ولكان السؤالُ بوابةَ أمانٍ لحياةٍ غير محشورة بباب ولا منزل يأوي أفكارًا لعينة، حياة أفلتتها المسافات الخاوية والعقد الفارغة، بل حياة محصورة بروحَيْنا، إما ذلك أو سيضع السؤال (نقطَتَهُ) أخيرا فتتضح أحكامٌ أخرى، ثم يبدأ فصلٌ جديد يفاجئني، فصل لا تشي به مقدّمات فصولي السابقة؛ فالتذكُّر هبة للكاتب، ونقمة للحيّ الذي يكرر أخطاءه حتى ملَّ التاريخ منه. يذوب الجليد بخطوة تُنهي برودته، وينهار مشوارُ ألف ميل بخطوة، و(كيف حالك) تنتظر بوجنتين محمرّتين وعين مكسورة قبل أن يؤذن لها بخطوة أولى… خطوة قد تكون مؤجلة كثيرا أو ملغيَّة؛ فما زلتُ أجهل مواسم الكلام حين تقع الحياة بكلتا قدميها في قلبي؛ حيث أحبس نفسي في صمت موحش، وبين قدمين لا تحملانني إلى أي مكان، لقصُور بلاغتي الخاصة في عيش هذه الحياة.