الروائية التي تكتب من جذر الذاكرة لا من قشرة اللغة.

حين تكتب امرأة من منطقة مشتعلة بالرموز والقبائل والأساطير، لا تكتب لتخبرك، بل لتستدرجك.ليست هذه الروائية ممن يمسكون القلم ليملأوا البياض.هي ممّن يذهبون إلى الورقة كما يذهب الناس إلى مقام مقدس، يخلعون نعل العادة، ويتطهّرون من اللغة الجاهزة.لا تكتب لأنها تُجيد الكتابة، بل لأنها لا تعرف كيف تصمت. ذات حضور أنثوي لا يريد أن يثبت، بل أن يزهر ،وثمّة فرق هائل بين من تكتب لأن عليها أن تثبت حضورًا في عالم سادَه الذكور قرونًا، ومن تكتب لأنها شجرة ذات جذور في الأرض، لا تهتم إن لاحظها أحد أم لا. هي لا تحمل شعارات ولا ترفع يافطات. وجودها الأنثوي ليس بيانًا سياسيًا، بل نَفَسٌ داخلي يتخلل كل حرف، ويعيد صياغة العالم بلغة الحواس. ليست صوتًا، بل صدى أعماق، لأن معظم الكتّاب يكتبون بأصواتهم.القليلون فقط يكتبون بصدى ذاكرتهم العميقة، بصوت ذلك «الآخر الداخلي» الذي لا يتكلم إلا حين تسكت ضوضاء العالم. وهي من هؤلاء. ربما لأن الطفولة كانت معرفة صافية، بل خيطًا معقودًا بين الحنان والاستكشاف والإدراك والمعرفة التي غرفت منها، وكأنها الشلال الذي يهدر بداخلها.وربما لأن الذكريات عندها لا تُستعاد لتُبكى، بل لتُروى، ولتُفهم، ولتُغفر.هذه الروائية لا تسرد لنبكي أو نضحك ولا لنشكو، بل لتُحدث مصالحة سرّية بين القراءة والتاريخ والجمال. فنعشق الأماكن وندرك سر تطورها بين الماضي والحاضر وحتى المستقبل. أميمة الخميس تشبه الحكيم الذي يعرف أن النسيان خيانة وأن الفلسفة كانت دومًا تقف على باب الأدب. بل تجعل الأدب ذاته فلسفة مُعاشة، لا تنظيرًا مفارقًا. إنها تسائل الوجود من حيث هو تفاصيل صغيرة في رواياتها نجد صندوق، جدّ، عطر، ضوء شاحب في قبة محراب. ففي عالمها، لا وجود لشيء «صغير» لأن الكون كله مُركّب من صغائر صَبَرَت على المعنى حتى تَحجّر فيها. فهل النسيان شفاء من رواياتها ؟ أم خيانة قارئ يحاول نسيان رواياتها من مسرى الغرانيق إلى عمة آل مشرق التي جعلتني أقرأها مرات ومرات . هي لا تستخدم التاريخ لتبرز قدراتها لأنها تعي أن الرواية ليست مختبراً لإعادة تمثيل الوقائع، بل فضاء لاختبار تأثير الزمان على الوعي . تمر من عين التمر إلى وادي سرحان من بصرى الشام إلى ضفاف القدس، لكن عينها لا تبحث عن مشهدية المكان بل عن الضمير الضائع في ركامه . إنها كاتبة صاحبة ذاكرة متينة، لكنها لا تعبّد الماضي، بل تنتقده بحذر، وتراه مادة اختبار لمعرفة ما إذا كانت الأرواح يمكنها النجاة بغير تحالف متين مع الذات والآخرين .رغم أنها لا تصرخ، ولا تُحاكم ، فإن رواياتها تنضح بما يمكن أن نسميه « أخلاق الكتابة» أخلاق لا تعني الحكم بل المسؤولية . مسؤولية نقل الحقيقة، حتى وإن كانت على هيئة ظل في كهف هي تمارس أدب لا يُغري بل يختبر قارئه وتجعلنا كل مرة نقرأ لها نقف على شفير التساؤل . لذا تكتب، لا لكي تنسى، بل لكي نحمل الذاكرة معها على أكف أوراقها الروائية وتستأنف بها الحياة، لا كعبء بل كهوية. ثمّة كاتبات مولعات بصورتهن. يكتبن ليصبحن شخصيات في رواياتهن، ليصعدن المسرح. هي ليست منهن.هي لا تكتب لتتجمّل.بل تكتب لتفتح النافذة، وتدعنا نطل على العالم الذي كانت تراه من شرفة الذاكرة.الرؤية عندها ليست استعراضًا، بل مشاركة.كأنها تقول لك: «:تفضل، هذه نافذتي التي رأيت منها الحياة.قد ترى أشياء لم أرها. لكنك ستعرف لماذا أكتب.» بعض الكاتبات يعاملن الأنوثة كملف مفتوح، موضوع دائم للنقاش، خندق للهوية.لكن هذه الروائية ليست في حاجة للحديث عن الأنوثة، لأن وجودها برمّته يُفصح عنها.ليست مضطرة أن تكتب عن جسدها، أو عن قهرها، أو عن الرجال – لا لأن هذه الموضوعات غير مهمة، بل لأنها تحمل وعيًا يتجاوز الصراع، لتدخل منطقة الشهادة.هي لا تقاتل، بل تُنير.لا تحتج، بل ترصد.وهذا أبلغ ما تفعله امرأة واعية في هذا الزمن. فما الذي يجعل منها روائية «كبيرة»؟ ليس عدد القرّاء.ولا حتى اللغة الفارهة. الروائية الكبيرة هي التي حين تقرأ لها، تتذكر نفسك ماضيك وحاضرك. توقظ فيك شيئًا منسيًا. تضعك وجهًا لوجه مع خيباتك الصغيرة، وتمنحك، دون أن تقول، رخصة للنجاة. هي التي تكتب ما لم تعرف أنك تحتاج لقراءته.وأميمة على تواضعها الواعي ، وعلى هدوئها، تفعل ذلك. لأن الكاتبة الحقيقية ليست من يبحث عن شهرة ، بل عن نداء تاريخ قديم في صدرها لم يسكت بعد. هي تعرف أنها لا تكتب فقط لتُنشر، بل لأن في داخلها منجمًا من الضوء لا يُحتمل، لا يُطاق، ويجب أن يُسكب على الورق. «وحدها الكتابة تنقذ من التشظي حين لا يعود العالم قابلاً للفهم.»وهي، ببساطة، من أولئك الذين يكتبون لينقذونا من الغرق في نسيان أنفسنا. لم أجامل في هذه الكلمات نادرا ما نقرأ لكاتبة متمسكة بجذورها هذا التمسك الذي جعلني أشعر أنها ولدت من كل حبة تراب في وطن عربي تفتخر به وتكتب تاريخه كالتي تسقي الماء من مزن أفكارها لكل قارئ قرأ رواياتها وأدرك أننا أمام كاتبة عربية أصيلة .