
العبور إلى أدب شبه الجزيرة العربية التاريخي عبر بوابة أميمة الخميس، لا يجعل القارئ يثري ذائقته المعرفية والجمالية وحسب، ولا يقتصر على قراءة الواقع والاشتباك معه عبر الإسقاطات والرمزيات، ولكن يمنحه صورة إنسانية وفكرية أكثر شمولية للعلاقة الفجة بين الهامش والمركز. ولأن الأدب العربي يثقله أصالته وجذوره، ومر من المشافهة للتدوين بمراحل عدة: ما بين ركود ونهوض، ومحاولات طمس للهوية، وإرغام على رؤية ماضينا بعين مستشرق، أو حتى بعين مؤرخ يعنى بالمهيمن ولا يكترث بالمذعن متشبثًا بتقريرية لا تخلد لغته، ولا تبرز مجازه ولا تتذوق بلاغته؛ كان من الطبيعي أن ينعكس على أدب أميمة الخميس ابنة البيئة العربية التي أثمرت لنا المعلقات والوصايا المذيلة بالسجع، بدءًا من العناوين التي تحمل أسجاعًا ورمزيات مرورًا بولعها بإبراز التابين الثقافي في أعمالها من خلال التنقل بين الأصالة والمعاصرة ، فضلًا عن قدرتها على توظيف الأساطير المستلهمة من التراث دون تكلف. فنجد في مجموعة « الغزالة « بنكهة رمضانية اختلطت فيها الروحانيات بالرهبة من وباء كورونا أنتجت لنا « قلائد الجمان وفرط الرمان في ليالي رمضان» إحدى قصص مجموعتها «الغزالة» حيث وظفت وباء كورونا في هذه المجموعة لتنقل لنا من خلاله صورة حية أشبه بالكادرات السينمائية لحياة كاتبة تستعين بالإلهة أثينا في ليالي رمضان لا في تدبير شؤون بيتها ولكن في أمور تتعلق بالكتابة، بنقد مضمر من خلال استدعاء أثينا من الميثولجية اليونانية لأولئك الذين يفتقرون إلى الإبداع ويلجؤون إلى الذكاء الاصطناعي في مجال الكتابة، وفي الوقت نفسه لبيان الفارق بين حياة الكاتب والكاتبة من حيث التفرغ للكتابة، وفي «عمة آل مشرق» نقلت لنا من خلال وباء الحمى صورة كاملة عن كيفية التعامل مع الأوبئة في تلك الفترة، ودوره في نشوب قصة حب بين عمة آل مشرق والطبيب ماثيو. ذاكرة المكان في أدب أميمة الخميس يشكل المكان وعاء للتاريخ، وبمعالمه تشكل تأطيرًا له فتخرج الحكايات في ثوب ذاتي لكنها في الوقت نفسه اقتفاء لأثر كل ما اندثر. وإن كان ماثيو إيدن وهاريسون وإرسالية المنامة ،حين اتخذوا من الطب قناعًا للتبشير، متناسين أنهم على أرض هي مهبط الديانات ومهد الحضارات، فإن صحراء شبه الجزيرة العربية في « عمة آل مشرق» تصدت لتلك المحاولات فسردت رياحها ما حجبته الأبجدية ، وتناقلته المشافهة، وعجز المستشرقون عن توثيقه، فالجازي/ العمة) وحكايات الجدة بمثابة الدليل في صحاريه. ولا يعني هذا في أدب الخميس انحيازها للحضارة العربية على حساب الحضارات الأخرى بل إيمانًا منها بضرورة التنوع الثقافي دون طمس الهوية، ودون هيمنة سلطة بعينها ذكورية كانت أو دينية، أو حتى سياسية أو استعمارية كما في رحلة مزيد الحنفي في « مسرى الغرانيق» والجوهرة في» الوارفة» و» بهيجة» في البحريات فالصراعات لديها صراعات ثقافية وفكرية في المقام الأول للدفاع عن الوجود، وكمقاومة لمحاولات طمس الهوية الذاتية والجمعية . ويتعارض موقفها من الاستشراق مع موقف إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» إذ يتحول الشرق في كتابتهم وفقًا له من مكان جغرافي لصورة تعكس سلوكيات سكانها ومورثهم، فجاءت بعمة آل مشرق لتروي سرديتها ولكن بعين أهلها لا بعين مستشرق. ما بين هاليس ميلر وأميمة الخميس. يعد هاليس ميلر من أوائل النقاد الذين أشاروا إلى أن الدراسات الأدبية في السنوات الأخيرة اتجهت إلى تناول التاريخ والثقافة والسياسة والطبقية وهوية الذكر والأنثى ، بعيدًا عن التركيز على اللغة ذاتها، مما ساهم في المبالغة بالنقد السياسي والتركيز على آليات التواشج بين النص الأدبي والواقع التاريخي على حساب اللغة والجماليات، فبزغ ركود في النقد التفكيكي ، واتجه كتّاب الأدب التاريخي للانغماس في سرد توثيقي وسياسي دون الالتفات للغة، ولكن في أعمال الخميس حُققت المعادلة الصعبة من حيث النص الأدبي المفتوح على قراءات متعددة مع الاحتفاظ بجمالياته كما يدعو ميلر، وفي الوقت نفسه كانت نصوصها سجلًا توثيقيًّا أعادت الأصوات المهمشة للمركز، على خطى جورجي زيدان في روايته» المملوك الشارد» وعبد الرحمن منيف في «النهايات». ففي قصتها « قلائد الجمان وفرط الرمان في ليالي رمضان» دافعت عن الهوية من خلال الطعام باعتباره جزءًا منها، فعبر الرسم بالكلمات نقلت لنا كيف يتم المزج بين الأطعمة الشرقية والغربية من أجل إذابة الفوارق والتقاء الحضارات. « كنا نتسع ونتلاقح حضاريًّا عبر بوابة الطبخ» فتعاملت مع الطبخ وكأنه نص ضمني حارس للهوية، وفي الوقت ذاته تعرضت للأزمة الاستهلاكية في الوقت الآني حيث تحول المطبخ من سردية تاريخية لمهنة مربحة تتكئ على أساليب ترويجية خادعة عبر البرامج . وتتجلى المرأة في أعمال الخميس باعتبارها عقلًا مفكرًا، وكيانًا متكاملًا، بإمكانه أن يترك أثرًا أينما يتواجد في الصحراء باعتبارها مكانًا مفتوحًا، وفي المطبخ باعتباره مكانًا مغلقًا، فبهجية في البحريات استطاعت أن تجسد الجمال الكامن بداخلها ، لدرجة مكنتها من ترويض الصحراء لتغير طبيعتها الجغرافية، والجازي في « عمة آل مشرق» استطاعت أن تجتاز الصحراء مع ماثيو لتبدأ رحلتها في الخروج من عباءة العادات والأعراف ، وجوهرة» الوارفة» التي جاهدت لتنتصر لذاتها قبل أن تنتصر للمرأة بشكل عام، نساء أميمة الخميس جميعهن رفضن القولبة التي فرضتها عليهن بيئتهن. الرياض، الصحراء وأسرارها، الحياة باعتبارها أنثى، الأصالة والمعاصرة، التابين الثقافي، الحكايات الشفاهية، الرمزية، وإعادة الأصوات المهمشة للخارج ثيمات أعمال أميمة الخميس التي تقدم من خلالها نقدًا اجتماعيًّا يربط الراهن بالغابر لكشف أبعاد الهوية الإنسانية والتحيزات لبناء جسر ثقافي، يفكك السلطة وينتصر للحياة.