كل الضوء الذي لايمكننا رؤيته.

لدي عادة سيئة في قراءة الروايات.. استسلم لها تماما مهما كان حجم الملل الذي يصيبني.. تجرني معها حتى تطلقني مودعة عند آخر صفحة. إن ما يحفزني لقراءة الروايات المترجمة هو ذلك البعد الثقافي والتاريخي الذي أستشفه من خلال السرد المباشر لمواقف تبدو مألوفة في نظرهم.. وعجيبة في نظري مثلا مدير المتحف الذي خشي على ابنته الضريرة من تداعيات حرب محتملة فصنع لها مجسما خشبيا للمدينة بطرقها ومبانيها لتتمكن من الفرار إلى ملجأ آمن عن طريق عد الخطوات بين كل مبنى ومبنى ولمس أسطح المعالم من حولها لتحفظها واحدا واحدا.. لقد تهت في حقول الدهشة وأنا أتأمل هذه البادرة التي تجمع بين الحنان والذكاء وبراعة التعليم والتي لا أذكر أنني مررت بمثلها في الأدب العربي. وبرغم الملل الذي استبد بي في بداية قراءتي لرواية أنثوني دور إلا أنني آثرت أن أواصل السير مع فرنر منذ أيامه في الملجأ حتى أخذ مع صبية آخرين مع جنود الرايخ ليكون مسؤول الاتصالات اللاسلكية في الجيش.. ثم في الضفة الأخرى مع ماري لور الصبية الفرنسية العمياء ذات النمش التي تواجه الحصار والقصف وحيدة في قصر عمها. ومع تصعد أحداث الرواية يصل فرنر إلى القصر ليكتشف أنه مقر الإذاعة التي ظل مدينا لها منذ أحاطت طفولته البائسة بفقراتها المبهجة. قفلة المشهد جعلت الرواية مختلفة عن حكايات الحرب التي تطحن القلوب قبل الأجساد كما أن إغراق المؤلف في الوصف واستحضار الصورة كان مدهشا.. وكأنه يأخذ بيدي بين شوارع المدن ينعطف بي بين الزوايا الحجرية لمبانيها أسمع نعيق الغربان ووشوشات الموجات المنبعثة من أجهزة الراديو. وللحق أقول أن جزءا كبيرا من صناعة هذه التجربة يعود لبراعة المترجمة (أماني لازار) التي قدمت ترجمة متقنة ربما فاقت إتقان كل ما قرأت من أدب مترجم.