«الكرونوتوب» النسوي والإنساني في الرواية السعودية

في فضاء الرواية السعودية الرحب، تلمع أسماء قليلة، لكن ثمة صوت يسطع بإشراقة خاصة، صوت أميمة الخميس، الذي ينسج بين الذاكرة والتجربة الإنسانية، بين الواقع والخيال، ليحوّل الزمان والمكان من مجرد خلفية إلى كرونوتوب حي ينبض بالمعنى والحياة، كأن المكان نفسه يتنفس والشخصيات تتناغم مع إيقاع الزمن. إنها ليست مجرد كاتبة، بل شاعرة السرد، مؤرخة اللحظة، وراوية الظلال المهملة من التاريخ الاجتماعي، مجسدة قدرة الأدب على إعادة رسم الواقع وإضاءة المساحات المغمورة بصوت المرأة الحاضر في كل زاوية من حياتها. دخلت الخميس عالم الكتابة مسلحة بشهادة في الأدب العربي من جامعة الملك سعود، ثم دبلوم في اللغة الإنجليزية من جامعة واشنطن، عملت في التعليم والإعلام التربوي، قبل أن تتفرغ للكتابة الأدبية التي أضافت بعدًا جديدًا للمشهد الثقافي السعودي والعربي. تتجلى عبقريتها في رواياتها، مثل «البحريات» (2006)، و»الوارفة» (2008)، و»زيارة سجا» (2013)، و»مسرى الغرانيق في مدن العقيق» (2017)، حيث لا يقتصر دور الرواية على السرد، بل تتحول إلى مرايا تعكس الواقع الاجتماعي والثقافي، وتعيد تشكيله برؤية نسوية وإنسانية متوازنة. في أعمال الخميس، يصبح الزمان والمكان أكثر من مجرد إطار للأحداث؛ وفق رؤية ميخائيل باختين لمفهوم «الكرونوتوب»، يتحول الزمان والمكان إلى عناصر حية وفاعلة، تؤثر في تشكيل السرد والوعي، وتفتح أمام القارئ أفقًا لفهم العلاقات بين الشخصية والمجتمع، بين الفرد والتاريخ. في «الوارفة» تتحول الواحة والزمن المعاصر لحقبة ما بعد اكتشاف النفط إلى كائنات ذات حضور حي، تؤثر في مصائر الشخوص وتنسج هويتهم، فتتداخل الحياة اليومية مع تاريخ المكان، وتصبح الرواية فضاءً ينبض بالذاكرة الجماعية، ويصبح رمز الأم كشجرة مقترناً بالحياة والظلال والأمان. أما في «البحريات» و»زيارة سجا»، فتسعى النساء إلى اكتشاف الذات وتحريرها من انكال الجهل والأمية والسلبية، لكنها حرية متجذرة في هويتهن العربية والإسلامية، لا تمرد على التقاليد ولا رفض للمعايير المجتمعية، بل إدراك لطاقة النساء وقدرتهن على التأثير والتغيير ضمن الإطار القيمي والثقافي الذي نشأن فيه. هنا، يُصبح الفضاء البحري أو الواحة رموزًا للتحرر الشخصي والفكري، الذي يضيء إمكانات المرأة في إطارها الطبيعي، ويعرض للقراء قدرة النساء على إعادة صياغة حياتهن ومحيطهن بحكمة ووعي، وكأن الخميس تقدم نموذجًا للإصلاح الاجتماعي الناعم، ينطلق من داخل المجتمع ذاته، دون ثورة أو صدام، بل عبر فهم أعمق للذات والآخر. .لقد ناقشت الخميس في «ماضي مفرد مذكر» تعددية الأصوات (polyphony) في اللغة العربية، حيث استبعدت التراكيب التقليدية النساء والفتيات من السرد التاريخي والاجتماعي، معتبرة أن صياغة الأحداث بصيغة الماضٍ المفرد المذكر تجعل حضورهن وهميًا ورؤيتهن منقولة، منقحة، وليست متكاملة. وقد أظهرت في كتاباتها كيف يمكن تجاوز هذا التحيز اللغوي والاجتماعي، بوجود مرونة اللغة العربية وشمولها وبقدرة الانسان على التطور والتغيير، مؤكدة أن الماضي ليس ثابتًا، بل يمكن إعادة كتابته وملء فراغاته بصوت النساء، ليكن حضورهن الفعّال في التاريخ والحياة واضحًا ومؤثرًا. ويتقاطع هذا التوجه مع رؤية إدوارد سعيد حول الكتابة من الهامش، إذ يرى سعيد أن الكتابة وسيلة لإعادة تشكيل التاريخ والهوية، وفي «زيارة سجا» و»البحريات»، تعيد الشخصيات النسائية نسج علاقاتهن بالزمان والمكان، فتخلق سردًا موازياً للتاريخ الرسمي، يكشف كيف أن الذاكرة النسائية تُسهم في تشكيل الوعي الجمعي وملء الفراغات التي يغفلها التاريخ التقليدي. وفي «مسرى الغرانيق في مدن العقيق»، تقدم الخميس سردًا تاريخيًا يسلط الضوء على دور النساء في العصور الوسطى في تشكيل الفكر والثقافة، مؤكدة أن الرواية أداة لإعادة كتابة التاريخ من منظور نسوي، يمكّن من إكمال ما يغفل التاريخ التقليدي، ويمنح المرأة صوتًا حيًا: الأم الوارفة، الابنة المؤنسة، الأخت المؤازرة، والإنسانة المستقلة التي تحلم وتبني وتزرع ورود الإبداع في محيطها. إن كتابات أميمة الخميس تكشف عن قدرة الأدب على تشكيل الهوية والوعي الجمعي وإعادة صياغة صورة المرأة السعودية برؤية مستقبلية متجددة تجسد إمكان الجمع بين العمق الإنساني والتأمل السردي. فهي، عبر الكرونوتوب النسوي والإنساني، تجعل من الرواية فضاءً للاكتشاف والتحرر، ومن التاريخ نصًا حيًا يروى من منظور المرأة الحاضرة في كل لحظة ومكان، لتبقى الكتابة النسائية، كما أثبتت الخميس، قوة قادرة على إعادة تشكيل الواقع وصياغة المستقبل، بوعي رزين وجمال أدبي لا يضاهى، كنسيم يتسلل بين أروقة الذاكرة، يزرع الأمل، ويغني صمت الزمان والمكان بصوت المرأة: الرقيقة كنسيم البحر، والقوية كجذوع النخل. * أستاذ مساعد بجامعة دار الحكمة - جدة